قروض البنك الدولي المشبوهة تشترط غالباً -تحت دعاوى برامجه للإصلاح الاقتصادي- ضرورة تقليص ميزانية التعليم
ليس من المعيب أن يُخطئ الإنسان، لكن كل العيب أن يكرر الخطأ ذاته ويتوقع نتائج مختلفة لمجرد امتلاء الجو بالكلمات المعسولة والمصطلحات المنمقة، عندما لا يراك الآخرون إلا وليمة فلا تغترّ بتلك الابتسامات، فالضباع كما تقول حكمة قبائل النافاهو دوماً تنتظر في الظلام، وهي دوماً جائعة!
قروض البنك الدولي المشبوهة تشترط غالباً -تحت دعاوى برامجه للإصلاح الاقتصادي- ضرورة تقليص ميزانية التعليم وفتح الأسواق للسلع الأجنبية وإلغاء الدعم للسلع المحلية، ببساطة أن توافق طوعاً على وضع رأسك تحت المقصلة
لنعد قليلاً للوراء لتوضيح جزئية مهمة لا بد من معرفتها حتى تكون نظرتنا للأمور أكثر عقلانية وأحوَط من الانسياق خلف العواطف، فالدول الأوروبية المستعمِرة لم تترك مستعمراتها صحوةً لضمير إنساني أو ندماً على ما فعلت أو رغبة أن تزدهر هذه المستعمرات بعد سنين من الاستغلال والإذلال والقهر، كل ما في الأمر أنّها مرّت بحربين عالميتين مدمّرتين لم تجعلها قادرة على إدارة المستعمرات أو تحمّل نفقات الحكم المباشر لها أو ما يحتاجه حفظ الأمن والنظام فيها، لذا كان لا بد من تغيير أساليب التعاطي مع تلك الدول الغنية بثرواتها الطبيعية لإبقائها تحت الهيمنة الإقتصادية لذات الدول المستعمِرة مع منحها الاستقلال السياسي الممنهج، ممنهج لأنّه لا استقلالية فعلية للقرار السياسي إن كان الإقتصاد ما زال دائراً في فَلَك مُستعمِر الأمس، وإن كانت إملاءات برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية تجعل أسواق هذه الدول مفتوحة لمنتجات الغرب، وثرواتها تُباع بأزهد الأسعار له!
صندوق النقد الدولي IMF «حدوتة» بحد ذاته فيما يخص كونه أداة استعمارية لا ترحم، فالتلاعب بالتنبؤات الاقتصادية التي ينتهجها لا تتوقف وذلك لإيقاع الشعوب الصغيرة في برامجه المشبوهة، فالقروض التي تخرج منه ليست لوجه الله وليست لإنقاذ المجتمعات الفقيرة أو تطويرها أو تخليصها من المرض والجوع، لكنها طريقة لإيقاعها في فخ الديون التي لا تنتهي أبداً، في فضح ذلك كتب جوزف ستيجليتز رئيس الاقتصاديين السابق في البنك الدولي في كتابه (العولمة والساخطون عليها): «من أجل جعل برامج صندوق النقد الدولي IMF تبدو صالحة، ولجعل الأرقام ذات معنى، لا بد للتنبؤات الاقتصادية من (تكييف)، وكثير من مستخدمي هذه الأرقام لا يدركون أنها ليست تنبؤات عادية، وفي هذه الأحوال تصبح تنبؤات الناتج المحلي GDP غير مبنية على نموذج إحصائي مطوّر، أو حتى على أحسن تقديرات أولئك الذين يعرفون الاقتصاد حق المعرفة، بل تكون تلك الأرقام مجرد أرقام تمت المفاوضة حولها كجزء من برنامج الصندوق»!
طيلة العقود الماضية واصل «المستعمِرون الأوائل» من دول العالم الأول تسويق وبيع نموذج إنمائي لدول العالم الثالث لا ينتج تنمية ولا نمواً ولكنه يولِّد ديوناً متزايدة بشكل ٍ مجنون، والتي بلغت تقديراتها الأخيرة ما يزيد على 3.2 تريليونات دولار، والنصيب الأكبر من تلك القروض ذهبت لجيوب النخب السياسية الفاسدة أو لمشاريع تخدم شركات العالم الأول فقط وليس الشعوب المنهكة، المضحك المبكي أنّ أضعاف المال المقترَض قد تمت استعادته أو بالأصح امتصاصه من ناتج تلك الدول المقيّدة ومن ثرواتها المنهوبة، فمنذ منتصف السبعينيات خرجت أموال تقدر بقيمة 55 تريليون دولار من البلدان الفقيرة لدول العالم الأول، ذهب أكثرها لحسابات مصارف «الأفشور» التي لا تسري عليها المراقبة!
بعد نجاح مشروع مارشال لإنعاش اقتصاد أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، طَمَحتْ الدول الفقيرة لمشروعٍ مشابه وذلك ما تم، لكنّه للأسف كان مشروع مارشال معكوس، فوقعت بسذاجة وحُسن نية أحياناً أو تواطؤ مع النخب السياسية الفاسدة ولوردات الحرب في براثن برامج البنك الدولي وأصبحت هذه الدول مطالبة بدفع 375 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل عشرين ضعفاً لحجم الديون الأصلية والتي أشرنا في الفقرة السابقة أنّها سُدّدت بأضعاف مضاعفة، واللافت للنظر أنّ قروض البنك الدولي المشبوهة تشترط غالباً تحت دعاوى برامجه للإصلاح الاقتصادي على ضرورة تقليص ميزانية التعليم وفتح الأسواق للسلع الأجنبية وإلغاء الدعم للسلع المحلية، ببساطة أن توافق طوعاً على وضع رأسك تحت المقصلة!
غانا مثلاً أرغمها صندوق النقد الدولي عام 2002 كجزء أساسي من برنامج إصلاح نظامها الاقتصادي على إلغاء الرسوم الجمركية على الأطعمة المستوردة فكانت النتيجة إغراق الأسواق المحلية بالأطعمة المستوردة وإفلاس مئات الآلاف من الفلاحين البسطاء الذين كانوا يقتاتون من طرح منتجاتهم في السوق المحلية، أما بيرو فقد أُرغمت أوائل التسعينيات على خفض الرسوم الجمركية على الذرة الصفراء لإفساح المجال أمام الشركات الأمريكية التي أغرقت السوق ولم يجد الكثير من أصحاب تلك الأراضي وفلاحيها من حل للوفاء باحتياجات عوائلهم سوى بزراعة تلك الأراضي لإنتاج الكوكايين!
بعض الدول شككت بنزاهة توصيات البنك «الاستعماري» هذا، فقد حاول عام 1958 الضغط على اليابان لإيقاف مصانع تويوتا لضعف تنافسيتها وتنبؤه بفشلها مستقبلاً والاهتمام بدلاً من ذلك بإنتاج الملابس ولعب الأطفال، لكن الحكومة اليابانية لم تستمع لتلك النصيحة وحالياً تويوتا هي أكبر شركات السيارات في العالم، لاحقاً وإثر أزمة النمور الآسيوية لم توافق ماليزيا على برامج البنك رغم تحذيرات الخبراء «المأجورين» ونجحت في التعافي سريعاً بينما عانت جاراتها.
حتى نعرف حقاً أكذوبة برامج هذا البنك ومن يقف وراءه لا بد أن نعي أنّ أكبر دولة تملك ديوناً هي الولايات المتحدة بدين تجاوز الـ18 تريليون دولار، وكان المفترض تدخل البنك الدولي وإعلان حالة الركود الاقتصادي بها واتباع سياسة تقشف غير مسبوقة في التاريخ، لكن البنك لم يفعل لأنّه ببساطة يعلم أنّ تلك التدابير لا تصلح إلا لإغراق الدول في ديون أكبر، ولأنه أداة استعمارية ذات مظهر يدّعي الخيريّة لكنّه أقوى بكثير من الوجه الاستعماري القديم، لا شيء يجعل الدول تركع مثل التحكم في المال، دون مال لا تنمية ولا أمن ولا حياة، ورغم أنّ هذه الدول تملك ثروات هائلة لكنّ ليس من حقها الاستفراد به، ثرواتها لا تجدر إلا بالاستغلال من دول النخبة التي لم تتركها منذ قرون، هي مائدة شهية وسهلة ولا أحد يترك تلك المائدة إلا المجنون!
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة