عندما تتحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية فأنت تتحدث عن القطب الأوحد تقريباً على الساحة العالمية، والاقتصاد الأكبر في العالم
عندما تتحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية فأنت تتحدث عن القطب الأوحد تقريباً على الساحة العالمية، والاقتصاد الأكبر في العالم، بناتج إجمالي يزيد على الـ18 تريليون دولار، والبنية التحتية الأكثر اكتمالاً، بينما الدولار الأمريكي هو العملة المهيمنة عالمياً، والثقافة الأمريكية ونمط حياتها هما الأكثر انتشاراً ورواجاً خاصة في الأجيال الشابة، وهي أخيراً الأقوى عسكرياً بقدرات تدميرية بإمكانها إزالة الحياة من على وجه الأرض 15 مرة!
إن الساسة في أمريكا يعلمون تمام العلم أنّ الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس، والتي أخذت أمريكا مكانها، لم تكن تتوقع أن يأتي اليوم لتجد نفسها قد فقدت عرشها وأصبحت ضمن «البقيّة»، ويعلمون أنّ السقوط لا يأتي مرة واحدة ولكنه يتدرج ويترسّخ بانشغال الكبير عن بعض العلامات، ولا ينتبه إلا بعد فوات الأوان وظهور منافس أكثر شباباً وأقوى حماساً وأكمل استعداداً للتحديات الجديدة، والظروف المتباينة للحاضر المختلف عن الأمس، لذا لن نستغرب ونحن نرى أغلب الرؤساء الأمريكان ليسوا بأوفياء للدستور الأمريكي والمُثُل العليا التي به، عندما يكون الوجود على المحك لا يكون هناك مكان للقيم والأخلاقيات!
ستبقى أمريكا هي اللاعب الأوحد ما دامت تستطيع كبح جماح المنافسين المتربصين بها، هذا الكبح لا يتأتى إلا بطريقتين: حروب الوكالة لاستنزاف قدرات أولئك الطامعين في وليمة الكبير، وبالسيطرة على الموارد الطبيعية التي عليها مدار نمو اقتصادات العالم، الطريقة الأولى سأدعها لمقالٍ لاحق، لكنني سأتطرق للجزئية الثانية وهو استعمار غير ظاهر أبدعت فيه أميركا، فعندما قال بيل كلينتون: «يحق لأمريكا استخدام قوتها العسكرية لضمان الوصول إلى الأسواق الأساسية، وإمدادات الطاقة والموارد الاستراتيجية» فإنّ ذلك، كما يقول المؤرخ جون لويس غاديس، ليس بجديد بل هي عقيدة متأصلة منذ عهد الرئيس جون كوينسي أدامز قبل قرنين من الزمن، وهي عقيدة «التوسع هو الطريق إلى الأمن»، بل إن بوش الابن وأوباما قدما شيئاً أكثر راديكالية من خلال الإبقاء على قوات عسكرية ضخمة في أوروبا وآسيا لـ«تشكيل» الرأي العام لصالحها، وتحديد الأحداث التي ستؤثر على مستقبل الحياة والأمن فيها، وهو ما أسماه المؤرخ العسكري أندرو باسيفيتش «عقيدة الحرب الدائمة»!
ستبقى أميركا هي اللاعب الأوحد ما دامت تستطيع كبح جماح المنافسين المتربصين بها، هذا الكبح لا يتأتى إلا بطريقتين: حروب الوكالة لاستنزاف قدرات أولئك الطامعين في وليمة الكبير، وبالسيطرة على الموارد الطبيعية التي عليها مدار نمو اقتصادات العالم
هذه الميكافيلية الفجّة استخدمتها أميركا لضمان سيطرتها على الموارد في القارة الأفريقية تحديداً، فهناك ساعدت في اغتيال الرئيس المنتخب باتريس لومومبا في الكونغو، ودعمت ديكتاتوريين مثل جوناس سافيمبي في أنغولا وموبوتو سيسي سوكوولوتن كابيلا في الكونغو، وأباتشا وأولوسيغان أوباسانجو في نيجيريا وصموئيل ودي في ليبيريا، ووقفت موقف المتفرّج على سيل المذابح الأهلية التي حدثت في ليبيريا ورواندا وزائير وجنوب السودان؛ فيما عُرِف أميركياً باسم «عصر النهضة الأفريقية» والتي لم تكن سوى خدعة شبيهة بالربيع العربي، لتفتيت الدول وإسقاط الحكومات والسماح بدخول البنك الدولي أحد أهم الأدوات الأمريكية للسيطرة على دول العالم، وإلزام الحكومات التي يأتون بها بمنح نصيب الأسد للشركات الأمريكية لنهب ثروات هذه الدول كما تشاء!
يقول جورج ريتش لزميله جون بيركنز صاحب كتاب «اعترافات قاتل اقتصادي» الشهير: «إذا كنت تنوي إنجاب أطفال وأن ينعموا بحياة رغيدة فيجب عليك أن تستميت لتضمن تحكمنا بالقارة الأفريقية»، لذا ليس بغريب أن يموت يومياً 5500 طفل في شرق وجنوب أفريقيا، وأن يتوقَّع موت 90 ألف طفل في نيجيريا وحدها هذا العام بينما لا تحرّك سيدة العالم أو شيطان العالم بالأصح شيئاً، لدرجة انخفض متوسط العمر في القارة البائسة إلى 46 سنة بسبب فتك الكوليرا والحمى الصفراء والملاريا والسل والأيدز والبنادق المأجورة بهم!
إن ساسة البيت الأبيض وآلتهم الإعلامية الجبارة يتعمدون تجهيل الرأي العام عن إفريقيا، لا أحد يعرف من يحكم تلك الدول ولا ما بها، ولا يعرفون أسباب القتل المستعر فيها، المطلوب ألا ينتبه أحد بل ولا يهتم لما تقوم به شركات الشيطان وقتلتها المأجورون، ولا أن تتم مساءلتهم عما يقترفونه من أجل التحكم في ثروات هذه القارة، تماماً كما تم إجلاء كل سكان جزيرة دييغوغارسيا في صمت عالمي تام لتصبح قاعدة عسكرية أميركية!
إحدى أغرب الوسائل للإبقاء على القارة متخلفة ونازفة دون توقف هي المؤسسات الإنسانية غير الحكومية، والتي رغم حسن نوايا من يتطوعون بها إلا أنّ الحكومة الأمريكية تستغلها لتطويل أمد الحروب وترك المذابح على مصراعيها، من خلال إشغال العالم بنجاحاتها في إيصال المساعدات الإغاثية للمحاصرين أو الجائعين وتَنسِيَتِهِم خيار إيقاف الحرب الأكثر إلحاحاً وضرورة، بل أصبحت هذه المؤسسات الإنسانية كما يقول أحد العاملين بها أشبه بـ«ورقة التوت التي تستر عورات الحكومات الغربية عندما لا تملك أو لا تريد حلاً سياسياً أو دبلوماسياً»، هذه الحروب تعزّز فقر القارة وتجعل حكوماتها هشة للغاية، ومواردها الطبيعية وثرواتها تحت سيطرة من يمنحهم السلاح ليقتلوا بعضهم البعض!
مثال وحيد سأذكره يخص جمهورية الكونغو، والتي تكفي مياه نهرها لتزويد أغلب قارة أفريقيا بالكهرباء، هذا عدا عن ثراء البلد بالماس والذهب والنحاس واليورانيوم والتنتالوم، هذه الموارد الكبيرة والرغبة في التحكم بها لاستدامة تفوقها على المنافسين هي ما يفسّر سكوت أميركا عن المذابح الأهلية التي حدثت منذ 1998 حتى 2007، وأهلكت أربعة ملايين من البشر في أكبر مذبحة تتم تحت بصر وسمع أو بالأصح مُباركة سيّدة العالم!
إن أمريكا تسببت بتدخلاتها المريبة ودعمها لحكومات ديكتاتورية مجرمة في مجازر غير معقولة تفوق بمراحل ما ارتكبه الرومان القدامى، والمستعمرون الإسبان والبرتغاليون والإنجليز والهولنديون؛ بل وأكثر مما فعله أدولف هتلر، لكن هذه الجرائم مرت بهدوء خبيث لأنها تملك قوة إعلامية جبارة وعملاء منتشرون في أوصال العديد من دول العالم، قادرون على تشويش الرأي العام وإشغاله بأمور ثانوية، أو تحوير مسار الحوارات إلى نواحٍ بعيدة مربكة، المهم ألا تزعج الشيطان وهو يأكل وحيداً!
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة