النسخة الجديدة من العقيدة الروسية للسياسة الخارجية التي وقعها الرئيس فلاديمير بوتين نهاية مارس/آذار الماضي تمثل قطيعة جذرية مع جميع الإصدارات السابقة للعقيدة الروسية والسوفياتية أيضا.
فقد جاءت أكثر تحديدا لأهداف روسيا المستقبلية، وأدقّ تشخيصاً للمخاطر التي يمكن أن تواجهها على الصعد الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ورسمت ملامح أدوارها وطبيعة أدواتها لحماية مصالحها في العالم.
اللافت أنها انطوت لأول مرة في تاريخها على إظهار نزعة روسيا "الأوراسية" كمحور لعلاقاتها الدولية.
تنطلق العقيدة الروسية الأحدث من اعتبار أن "الولايات المتحدة الأمريكية المحرك الرئيسي والمصدر الأساسي للسياسة المعادية لروسيا وأكبر تهديد يواجه العالم وتطور البشرية"، وتؤكد على تعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع "مراكز القوة العالمية الصديقة، الصين والهند".
وتجزم العقيدة الروسية الجديدة بأن "المشروع الرائد بالنسبة لروسيا في القرن الحادي والعشرين هو تحويل أوراسيا إلى مساحة متكاملة يعمها السلام والاستقرار والازدهار كونها معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي".
ومع تبنيها معارضة سياسة خطوط التقسيم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإن العقيدة الروسية المعلنة تتعهد بالقضاء على "أساسيات الهيمنة" من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشؤون الدولية كإحدى أولويات روسيا.
فرضت تطورات الحرب الروسية الأوكرانية وتوسع دائرة التسليح المتبادل إنتاج مقاربات أمنية لدى القوى الكبرى مغايرة لما دأبت على اتباعها خلال عقود سابقة، وبدت كأنها إعادة تأسيس أو على الأقل تحديث استراتيجيات أمنية تتلاءم مع التحديات التي أفرزتها وستفرزها مجريات الحرب القائمة؛ في كلتا الحالتين بدا جليا أن القطبين الأطلسي وتقوده الولايات المتحدة، والروسي، اتجها إلى تحديث عقائدهما، فواشنطن وحلف شمال الأطلسي وجدا ضالتهما في الحرب الأوكرانية الروسية لترسيخ مفهوم الهيمنة والتوسع شرق أوروبا بالاقتراب من حدائق روسيا الخلفية متكئين إلى عقيدتهما الاستراتيجية في "الردع النووي"، وموسكو بعد أن قرأت رسائل خصومها بأبعادها التكتيكية مُجسَّدةً في إذكاء نار الحرب، عبر تغذية كييف بأسلحة محدودة النطاق دون السماح لها بتجاوز خطوط الدفاع باستثناء بعض الوثبات ذات الطابع المعنوي، وأبعادها الاستراتيجية الهادفة إلى إطالة أمد الحرب واستغلالها في سياق استنزاف روسيا على جميع الصعد، اختارت إعادة إنتاج عقيدتها في السياسة الخارجية وتحديثها عبر تأسيس مفاهيم إضافية وترتيب أولوياتها استناداً إلى ركيزتين؛ الأولى امتلاكها أكبر مخزون نووي بين دول العالم يقدر بأكثر من 6000 رأس نووي، والثانية توفير وتأمين الحماية لمصالحها المختلفة على المسرح العالمي من خلال ترسيخ تحالفاتها مع القوى الدولية الصاعدة.
شهدت العقيدة الروسية عددا من المراجعات والتحديثات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود وحتى الآن، تبدلت مفاهيمها وتغيرت أهدافها تماشيا مع التحولات التي شهدتها العلاقات الدولية وانتهاء فترة الحرب الباردة، وانتقلت من مفهوم "الانتقام الشامل" من أي هجوم عليها برد نووي مدمر، إلى مفهوم "الحرب النووية المحدودة" ثم إلى مفهوم "ردع المعتدين المحتملين" وحماية أراضي روسيا، لكنها لم تخرج في جميع تحديثاتها عن مقومات عقيدتها القائمة على مبدأ "عدم الاستخدام الأول" للأسلحة النووية والحفاظ على ما يعرف بالثالوث النووي الذي يتكون من "صواريخ باليستية عابرة للقارات براً، وأخرى تطلق من الغواصات، وقاذفات استراتيجية" والتمسك بأهمية "السيطرة على التصعيد" وكلها مقومات تساعد في منع خروج الصراع النووي عن دائرة السيطرة، لأن الطرفين الخصمين يتمسكان بمفهوم الردع كعامل توازن للقوة.
العقيدة النووية لحلف شمال الأطلسي لا تختلف عن العقيدة الروسية سوى بمفهوم واحد وهو "مفهوم المشاركة النووية" حيث تستضيف عددٌ من الدول الأوروبية، بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا، أسلحة نووية أمريكية على أراضيها لاستخدامها في حال نشوب نزاع نووي.
العقيدة الروسية الجديدة تبدو في جانب منها وكأنها رد على التغييرات التي أعلنتها إدارة بايدن بشأن أولويات الأمن القومي الأمريكي تزامنا مع تفجر النزاع الروسي الأوكراني، حيث انتقلت من التركيز على مكافحة الإرهاب كما كانت تقول إلى التركيز على التنافس الجيوسياسي خاصة مع الصين وروسيا، أما في جوانبها الأخرى فهي تتضمن سعيا ورؤية ومشروعاً سياسياً روسيّاً لإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب ينهي نزعة الهيمنة الأحادية الأمريكية على العالم ويجعل روسيا قطبا عالمياً ثانيا مؤثرا، وهذا يتضح من تحديدها لدوائر حركة سياستها الخارجية في دول الاتحاد الأوراسي أولا ثم الصين والهند وآسيا والعالم الإسلامي وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ثانيا، دون اتهام أوروبا بالعداء باستثناء الدول الخاضعة للسياسة الأمريكية وتوجهاتها.
بقدر ما تعكس العقيدة الروسية الجديدة نمط التفكير الاستراتيجي للكرملين وللرئيس بوتين فإنها تنطوي على إشارات وملامح جدية إلى أن احتمال عودة الحرب الباردة غير مستبعد بعد تغيير إدارة بايدن لعقيدة الأمن القومي الأمريكية ووضع روسيا والصين في دائرة الاستهداف الاستراتيجي، ويبدو أن مخاطر الصدام بين القوى العظمى لا تزال محتملة طالما بقيت الحرب الروسية الأوكرانية مستعرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة