عندما شرع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، أراد أن يبعد حلف شمال الأطلسي عن حدود بلاده.
وقبل أن تنتهي العملية الخاصة، توسع الحلف وجاور الروس على امتداد حدود أطولَ، وربما أخطر.
عن قصد أو دون قصد، دفع بوتين بالفنلنديين والسويديين إلى أحضان الناتو، وما فعله الرئيس الروسي في أوكرانيا لا يمكن تكراره في فنلندا التي تجمعها نحو 1350 كيلومترا من الحدود مع روسيا، ولا يمكن أيضا تكراره في السويد حتى قبل أن يكتمل انضمامها إلى الحلف الدفاعي الذي بات يهيمن على القارة الأوروبية عسكريا.
لا تمتلك روسيا الإمكانات لاحتلال فنلندا والسويد، ولا حتى أوكرانيا، يمكن أن تدمرهم بالسلاح النووي، ولكنها لن تفعل، فإطلاق صاروخ يحمل رأسا نوويا هو انتحار عسكري، الكل يعرف هذه الحقيقة، ولن يحمل أحد الحقيبة النووية إلا في رحلة باتجاه واحد، ذهاب بلا عودة، فهو قرار تدمير شامل للحضارة الإنسانية بحلتها الراهنة.
لم يكن الرئيس الروسي ينوي المضي نحو السويد وفنلندا بعد أن يحكم سيطرته على أوكرانيا، أراد فقط أن "يعظ" كل من يفكر بالانضمام إلى خصمه اللدود، الولايات المتحدة.
كان يعتقد أن سقوط كييف كفيل بدفع كل الدول الأوروبية الواقعة خارج الناتو، نحو مراجعة حساباتها، وإلغاء أي تقارب مع واشنطن على حساب موسكو.
لم تسقط كييف بعد، ولكن، حتى لو وقع ذلك بعد شهر أو عام أو عقد من الزمن، لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وخريطة حلف شمال الأطلسي ستمتد على رقعة أوسع مما كانت عليه قبل عام 2023.
يحتاج الرئيس الروسي إلى الاعتراف بذلك، وهذا يقود إلى الاعتراف بأول خسارة للعملية الممتدة في أوكرانيا منذ أكثر من عام.
توسع الناتو هو الخسارة الوحيدة التي يجب أن يتأملها الرئيس الروسي جيداً، لا يعني هذا أن العملية الخاصة في أوكرانيا لم تحمل ضررا سياسيا وعسكريا واقتصاديا لبلاده، ولكن الأضرار التي يقابلها هزائم لدى الخصوم، تفهم في السياق الطبيعي لمعارك رابحة وخاسرة بين الطرفين، حتى تضع الحرب أوزارها بطريقة أو بأخرى.
مقابل انضمام فنلندا إلى الناتو، لم تحصد موسكو أي مكسب حقيقي في محاربة كييف حتى الآن. والقواعد العسكرية الأمريكية التي كانت تخشى انتشارها في أوكرانيا، تكاثرت على امتداد دول أوروبية أخرى، وستغزو كامل الحدود الغربية لروسيا. وفي هذا سؤال كبير فحواه، ماذا يمكن أن يفعل بوتين لقلب الموازين رأسا على عقب؟
الإجابة المختصرة، هي الاستمرار في حرب أوكرانيا حتى السيطرة الكاملة عليها، وهذا يبعث برسالة إلى الغرب مفادها، أن دعم الناتو لأي دولة تعادي بوتين لن يحميها من السقوط على يد الآلة العسكرية الروسية، فهل نشهد ذلك اليوم الذي تنضم فيه كييف إلى الاتحاد الروسي، وتوجه بنادقها إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة؟
النصر الجزئي على كييف لن يبعث برسالة قوية للغرب، واقتطاع الأقاليم الأربعة شرق أوكرانيا، ربما لن يكون كافياً حتى للرأي العام الروسي.
جل ما يمكن أن يفعله هذا النصر، إن وقع أصلا، هو حفظ ماء وجه بوتين وحكومته، فيردد الجميع أن الحرب كانت فقط من أجل تحرير سكان تلك الأقاليم، ونال الجيش الروسي ما جاء من أجله.
في حدود تحرير الأقاليم الأربعة فقط، يمكن أن يحتفل الروس بـ"نصرهم" في أوكرانيا، ولكن لا أحد يعلم كم يطول الأمر حتى نصل إلى تلك اللحظة.
ولا أحد يعلم أيضا كم سيسجل بوتين من خسارات استراتيجية حتى تحين. ربما تصبح التوقعات أسهل بعد انتهاء معركة باخموت المتواصلة منذ أشهر، رغم أنها مجرد قرية صغيرة.
هل بات يجدر ببوتين أن يفكر بعيدا عن الانتصار الجزئي في أوكرانيا؟ هل ما زال يمتلك رفاهية الانسحاب من الحرب، واستعادة علاقاته مع الدول الأوروبية كما كانت قبل شهر فبراير/شباط 2022؟ هل من طريقة لتحويل الخسارة في فنلندا والسويد إلى نصر استراتيجي، يسجله الروس لزعيمهم بعد أن ينقشع غبار المعارك، وتتضح الرؤية أمامهم؟
الطرف الوحيد الذي يمكن أن يقدم هذه الهدية إلى بوتين هو الصين، هي وحدها التي يمكن أن تعينه على إنهاء الحرب في أوكرانيا، إما بانتصار عبر الدعم العسكري الواضح واللامحدود، وإما بهدنة طويلة الأجل تتبعها محادثات لحل "أزمة الثقة" المتجذرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وفي المحادثات ستقدم موسكو أكثر من غيرها بكثير.
تحاول بكين لعب دور الوسيط بين الغرب وروسيا، هي تميل أكثر إلى خيار الهدنة طويلة الأجل، عوضا عن دعم موسكو عسكريا حتى النصر، لها أسباب عديدة في هذا السياق، ولكن أهمها هو حرصها على عدم توحد الجبهة الأوروبية والأمريكية ضدها. فالتباين بين الحلفاء الغربيين بشأنها مكسب لا يمكن التفريط به أو التنازل عنه بسهولة.
ما يرجح كفة خيار الهدنة أيضا، هو الرغبة الأوروبية بإنهاء حرب أوكرانيا لما باتت تشكله من عبء اقتصادي وعسكري عليها.
زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين تفضح هذه الرغبة. وما نسمعه مؤخرا من تصريحات غربية بشأن نقص مخزونات الأسلحة، يعبر عن هذا التوجه الذي لن ترحب به الولايات المتحدة غالبا.
وأيا كانت نتائج المساعي الصينية، لا بد للرئيس الروسي أن يبحث عن بدائل لتعويض خساراته بتوسع الناتو في فنلندا وبعدها السويد.
يحتاج بوتين إلى إبداع من نوع خاص، كي يجعل هلسنكي تهدم السياج الذي تمده بين البلدين اليوم، أو يبني الروس سوراً يفوق سور الصين العظيم بمرات ومرات، كي يحموا أنفسهم من حلف الأطلسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة