إلى أين تمضي الأزمة المالية العالمية؟ وهل العالم في طريقه إلى حالة تضخم مرتفع، وكساد عالٍ، ما يمكن أن يشعل ما هو أكبر وأخطر من مجرد الأزمات المالية والاقتصادية؟
تبدو الأزمة المالية هذه المرة متعددة الأطراف، بمعنى أنها ليست كما الحال في 2008، حيث تسببت أزمة الرهون العقارية في الداخل الأمريكي في حالة اضطراب مالي استمرت لبضعة أعوام داخليا.
هل الحرب الروسية-الأوكرانية هي السبب المباشر في قلاقل عالمنا المالية؟
أغلب الظن أن ذلك ليس كذلك، فقد تركت جائحة "كوفيد-19" بصماتِها السيئة على العالم بشكل عام، وعلى الاقتصاد الأمريكي بنوع خاص.
جرى القول إنه حال إصابة أمريكا بالبرد، فإن الجسم العالمي سيتعرض لمضاعفات، بعضها يحتاج إلى مسكّنات، لكن يبدو أن هذه المرة ما يجري في الداخل الأمريكي يتجاوز ذلك.
لم تبدأ الأزمة في الداخل الأمريكي من عند إدارة بايدن، فقد سبقتها تراكمات في العقدين الأخيرين، ظهرت جليا في ارتفاع الدين العام الأمريكي، والذي سيتجاوز الثلاثين تريليون دولار مع نهاية العقد الجاري.
تقول الإيكونوميست إنه قبل وقت طويل بدا وكأن فترات الركود قد تضرب الولايات المتحدة مرة على الأقل في العقد الواحد. لكن بعد عامين فقط من انتهاء فترات الإغلاق، التي فُرضت بسبب الحظر الصحي للحد من تفشي "كوفيد-19"، تدور عجلات الاقتصاد، فيما يبدو أن البلاد بصدد المرور بفترة صعبة قريبًا، وهنا لن يكون مفر للاقتصاد الأمريكي مما هو قادم، في ضوء ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود.
مَن يصدق أن جالون البنزين بلغ في واشنطن العاصمة خمسة دولارت ونصف الدولار، وفي كاليفورنيا يقترب من التسعة دولارات؟
على أن المثير والخطير كذلك هو توجهات إدارة الرئيس بايدن السياسية، وتأثيراتها على المشهد الاقتصادي الأمريكي في الداخل، فقد جاء قرار وقف استيراد النفط من روسيا، بسبب عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ليمثل في حقيقة الأمر عقابا للاقتصاد الأمريكي نفسه، وللأمريكيين عامة قبل الروس.
ولأننا في زمن العولمة، حيث الشعوب تتشابك مصالحها، وتتداخل مسارات حياتها، ومساقات صراعاتها، فقد تكشف للأمريكيين أن سوء إدارة المشهد السياسي حُكمًا يمكن أن يؤثر في قادم الأيام على منعطفات حياتهم اليومية.
خُذ إليك على سبيل المثال وليس الحصر ما ذكره موقع "ذا هيل" الأمريكي، على لسان "مات بوين" و"بول دابار" -من مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا- حول العواقب المتوقعة في الداخل الأمريكي حال توقفت روسيا عن إمداد شركات الطاقة الأمريكية باليورانيوم المخصب لعمل المفاعلات.
هنا، وإذا مضى القيصر في طريق معاقبة العم سام، لا سيما إذا استمر الأخير في دعم الأوكرانيين بأسلحة تؤثر على عمق الأمن القومي الروسي، فإن ذلك قد يؤدي إلى إغلاق مفاعلات الطاقة النووية الأمريكية، المسؤولة عن توليد أكثر من 20% من الكهرباء في بعض أجزاء البلاد، ما يعني ارتفاع أسعار الكهرباء بصورة جنونية، والقفز فوق معدلات التضخم الحالية.
بلاد القيصر، وإن بدت متماسكة حتى اليوم، فإنها لا يمكن أن تستمر منعزلة عن بقية العالم، ذلك أنه وعند نقطة زمنية معينة -غالبا لن تطول- سيكون من المحتم على الروس البحث عن طرائق للعودة ضمن منظومة الاقتصاد العالمي.
ولا يمكن للمرء أن يتناول مشهد الأزمة الاقتصادية العالمية من غير أن يتوقف بالتفكير في مآلات القارة الأوروبية، والتي تبدو واقعة بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسي.
بدورها، أوروبا تكاد تكون على موعد مع تضخم وكساد كبيرين، لا سيما إذا طال أمد الحرب الروسية-الأوكرانية، وحال اقترب الشتاء من قبل تخزين ما يكفي من الطاقة لمواجهة الجنرال الأبيض، فهناك من يتخوّف من أن يجد الأوروبيون أنفسهم أمام ثنائية مريرة تتمثل في الاختيار بين الإنفاق على الغذاء، أو الحصول على التدفئة.
هل من جزئية كارثية مختبئة في تفاصيل الأزمة المالية العالمية الحالية؟
نعم، ومن أسف هي تلك المرتبطة بحالة الاستقرار الأمني والمجتمعي، فمزيد من الأزمات ستولد الكثير من الاحتقانات، وهذه بدورها يمكن أن تُضحي مولّدة لانفجارات كارثية، العالمُ في غِنى عنها، ويكفي ما جرى خلال العقد المنصرم.
ويبقى السؤال قبل الانصراف: "هل من بقية عاقلة على كوكبنا الأزرق تدرك أن ساعة التصالح والتسامح، التعاون المشترك، وتضافر الجهود، قد حانت لاستنقاذ النوع البشري من وهدة هذه الأزمة؟
أفضل سيناريو اقتصادي هو سيناريو الهبوط الناعم، أي انخفاض التضخم دون التضحية بالنمو الاقتصادي، وهذا لا يمكن بلوغه إلا من خلال بشرية تجدّف في قارب واحد باتجاه برّ الأمان، وليس ملّاحين متصارعين تقودهم أهواؤهم إلى الغرق في اليمّ مرة، وإلى ما شاء الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة