حاولت أنقرة مثل غيرها من العواصم الإقليمية الفاعلة دعوة طرفي النزاع في السودان "القوات المسلحة" تحت إشراف عبد الفتاح البرهان و"قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" إلى التهدئة والحوار بعيدا عن التصعيد العسكري.
لم تتوقف أنقرة مطولا أيضا عند حادثة إطلاق النار على إحدى طائراتها المدنية وهي تجلي المئات من المواطنين الأتراك الراغبين في الخروج من السودان "التحقيقات مستمرة وليس لدى طرفي النزاع في السودان سوء نية تجاهنا".
فالمسألة ليست بين أولوياتها بقدر ما هناك صراع يؤثر على مصالح تركيا ومئات ملايين الدولارات من الاستثمارات في المدن السودانية، ويستدعي إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع الطرفين، وإنجاح جهود الدخول على خط الوساطات التي أعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو لاحقا، بهدف التواصل مع المتحاربين والحيلولة دون انتشار المعارك وتفاقم الأزمة.
هناك حالة من التكتم التركي الشديد حول جهود الوساطة التركية وقرار إرسال مساعد وزير الخارجية للقاء قيادات الطرفين وما أسفرت عنه حتى الآن. لكن المسألة ليست بمثل هذه السهولة والبساطة، ووسط العديد من السيناريوهات السوداوية التي تذهب باتجاه صعوبة حدوث اختراقات سياسية ودبلوماسية على خط التهدئة وإقناع طرفي الصراع بالعودة إلى طاولة التفاوض.
وها هي أنقرة تجد نفسها اليوم أمام واقع إعلان وزير خارجيتها أن عملية نقل المواطنين الأتراك الراغبين في مغادرة الخرطوم شارفت على نهايتها، وقبول عرض نقل السفارة التركية إلى بورتسودان لدواعٍ أمنية مثل العديد من الدول التي يقلقها سيناريوهات المزيد من التصعيد والانفلات نحو الأسوأ.
تردد أنقرة أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع وأن ما يجري هو شأن سوداني داخلي ينبغي معالجته في هذا الإطار، لكن هناك حقيقة وجود الكثير من الأسباب والدوافع التي تقلقها إذا لم تهدأ الأوضاع سريعا وتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل منتصف الشهر المنصرم. اختارت تركيا السودان بسبب موقعه ومساحته وفرص الاستثمار فيه ليكون إحدى أهم ركائز سياستها الأفريقية.
نسقت مع عمر البشير واستقبلته وهو يعاني من عزلته الإقليمية والدولية. ثم صححت المسار بعد عام 2019 من خلال الانفتاح على اللاعبين المؤثرين هناك البرهان وحميدتي والتواصل معهما لحماية العشرات من مشاريع وعقود الاستثمار التركية في المدن السودانية. هي لا تريد اليوم أن يقود الانفجار، إلى ارتدادات أمنية وسياسية وإنسانية على ما بنته من منظومة علاقات، ومصالح بطابع استراتيجي مع دول الجوار السوداني ولعبة التوازنات الحساسة في القارة السمراء.
خصوصا أن الحديث يدور حول أن الحرب الدائرة هناك هي نتاج عوامل ومصالح سياسية واقتصادية وحرب نفوذ داخلية، لكنها قد تجذب إليها فاعلين من الخارج، كما قد تكون لها ارتداداتها على أكثر من دائرة جغرافية تحيط بالسودان.
يقلق أنقرة ما يجري في السودان لأنه يطول سياستها الإقليمية، ولأنه لا يمكن فصله بسهولة عن الحراك التركي الجديد نحو القارة السمراء ودول الشرق الأوسط، وبعدما وصل عدد الزيارات التي قام بها الرئيس التركي باتجاه الدول الأفريقية إلى 18 زيارة وارتفعت أرقام البعثات الدبلوماسية بين تركيا وأفريقيا بنسبة 7 أضعاف في العقد الأخير.
هدف التحرك التركي إذا لا يبتعد كثيرا عن أهداف الكثير من الدول الفاعلة والمؤثرة في المنطقة. المطلوب بشكل ملح هو تنسيق عربي - أفريقي مصحوب بدعم إقليمي ودولي، يفتح الطريق أمام إبقاء النزاع محصورا في نطاق ضيق داخل السودان، وإلزام طرفي الصراع بخيار التفاوض. لكنه ورغم نجاح أنقرة في معالجة مشكلتها مع حميدتي بسبب الملف الليبي، بعد سياسة الانفتاح على العديد من العواصم في الملف خصوصا مع القاهرة والرياض وأبوظبي، الذي سهل لها التواصل مع الرموز العسكرية السودانية، فهي ما زالت تواجه معضلة التصلب القائم في مواقف القيادات السياسية والحزبية الفاعلة في السودان التي ما زالت تتحفظ على النفوذ والدور التركي هناك.
ومع ذلك، فنحن نقرأ ونسمع في الداخل التركي من يردد أن الأزمة في السودان هي أزمة سلطات سياسية ومدنية تراجع دورها لصالح القوى العسكرية التي تريد فرض قرارها بواسطة السلاح الذي تملكه. وأن الخطوة الأولى قد تكون عبر هدنة عسكرية بين الطرفين المتصارعين، لكن الخطوة الثانية لا بد أن تكون من خلال الأحزاب السياسية والهيئات المدنية السودانية لتتحرك على الفور، كما فعلت قبل 4 أعوام للتعبير عن موقفها والتذكير بموقعها وقدرتها على إدارة شؤون البلاد، بعيدا عن أصوات الرصاص والقذائف وهدير المقاتلات فوق رؤوس المدنيين.
بقدر ما تريد أنقرة أن تعرف من الذي سيقود المشهد في السودان في المرحلة المقبلة، تريد أن تعرف أيضا مصير العشرات من المشاريع الاقتصادية التي بدأتها هناك. الإجابة قد لا تكون بالضرورة لدى الخرطوم نفسها وهذا بين الأسباب الإضافية التي تقلق تركيا وتدفعها نحو المزيد من الحذر وحسابات خط الرجعة.
رغم تنوع الوساطات لوقف الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع، فإن ما يخيف أنقرة هو تحول الساحة السودانية إلى حلبة مواجهة أمريكية روسية صينية على حساب مصالحها، وسط احتمالات ذهاب السودان نحو بركان ثائر يهدد بانفجار الكثير من المعادلات والتوازنات بين دول الجوار السوداني ويطيح بمصالح وعلاقات تركيا مع هذه الدول.
خسرت تركيا رهانها على عمر البشير قبل 5 سنوات بعدما توحد الداخل السوداني سياسيا وعسكريا واجتماعيا ضده. نجحت في تحسين علاقاتها بالبرهان وحميدتي لذلك هي لن تفرط بهذه العلاقة لصالح إرضاء أحدهما على حساب الآخر. هي ستحاول البحث عن الفرص الممكنة لها للعب دور المساهم في التهدئة. لكن الأهم بالنسبة لها أيضا هو مواصلة سياستها الإقليمية الجديدة التي أطلقتها في العامين الأخيرين باتجاه العواصم الفاعلة في الإقليم وعدم تعريضها للخطر، خصوصا مع اللاعبين المؤثرين في المنطقة مثل مصر والسعودية والإمارات.
الملف السوداني اليوم أحد أبرز فرص التقارب والتنسيق بين أنقرة وهذه الدول وهي تريد الوصول إلى هذا الهدف في إطار حماية علاقتها الأفريقية والعربية والإقليمية، ودون إقلاق أو تهديد مصالح لاعبين آخرين هناك أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة