إن التفاؤل والتشاؤم تظل حالة إنسانية تتوقف على حالة كل إنسان على حدة، وقدرته على استقبال أخبار بعينها
ما بين نهاية عام سابق وبداية عام جديد يكون هناك قدرا كبيرا من التشاؤم والتفاؤل، عادة فإن الأول يكون كثيرا، أما الثاني فهو ليس بقليل، وكثيرا ما يختلط بجماعة ثالثة تعرف "بالمتشائلين" الذين هم بين هذا وذاك لسعهم الماضي ولديهم خوف من المستقبل مع قدر ما من الاعتقاد أنه ربما كانت أصعب الأيام ولت وراحت. والحقيقة هي أن التشاؤم سهل في العالم، ويكفي أن تتابع حالة كوكب الأرض وما يجري فيه حاليا من حرائق تحاصر السائحين المسالمين على سواحل أستراليا بينما المطر عزيز على الهطول، أو تتذكر ما كان في الأمس القريب من أعاصير تغرق السواحل الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة، أو تستمع إلى خبراء مصريين يرون ما يحدث في القطب الشمالي خالقا مجرى مائيا يهدد السلامة الاقتصادية لقناة السويس، أو أن ارتفاع المياه في البحر الأبيض المتوسط تهدد دلتا النيل بما تغرقه من أرض وما تتسلل إليه عبر مسام الأرض في الدلتا. ولكن التشاؤم في مصر ربما يكون أقل استحقاقا من الاهتمام عندما تشاهد مدينة المدائن الجميلة فينيسيا في طريقها إلى الغرق بفعل ارتفاع مستوي المياه الذي يحدث في ناحية من الأرض، بينما تعاني دول أفريقية من الجفاف الذي يهلك البشر والماشية معا، قصص الغرق والجفاف ونشر الجدب والحرائق وتدمير البيوت كلها تدور في قصة الاحتباس الحراري والدمار التدريجي لكوكب الأرض؛ حيث المسألة لم تعد أفلاما سينمائية تدور حول كوكب مهدد أو خالٍ من سكانه، بينما في الواقع يبدو تطبيق اتفاق باريس لحماية الكوكب بعيد المنال وقد خرجت منه الولايات المتحدة وهي المصدر الأول لحرارة الاحتباس، وفي يوم من الأيام خرجت واشنطن من اتفاقية إنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولي فكانت أول القرارات المؤدية إلى الحرب العالمية الثانية!
ولكن قصة الكوكب واحتباسه الحراري ليست هي حالة التشاؤم الوحيدة ذات الطبيعة الكوكبية التي تشمل كل سكان الأرض، وإنما يبدو سببا للتفاؤل كما سوف نرى بعد قليل، وإنما يضاف لها ما لهذا التقدم من كوارث قادمة، المسألة هي على الوجه التالي: هناك بالفعل قفزات تكنولوجية جارية، ولها عوائد اقتصادية جمة، وفيها ما يسعد البشر ويشفيهم ويخفف من آلامهم، ولكن المتشائم لا يهمه كل ذلك، هو يعرف أن اختراع النار جلب التدفئة، ومع ذلك فإن البشر استخدموها في الحروب ومهاجمة القلاع وحرقها، القضية ليست في التقدم التكنولوجي وإنما في البشر وما فيهم من ميول شريرة، القفزة التكنولوجية الراهنة هي الطريق إلى الحروب السيبرانية، وهذه سوف تجعل من الحرب العالمية نزهة، لأنها سوف تهدم كل ما بناه البشر على مدى العشرة آلاف عام السابقة. الأخطر أن القادرين على استخدامها من عوام البشر، وكثير منهم إرهابيون بأنواع مختلفة، وهؤلاء إذا ما حصلوا على أدوات نووية وبيولوجية أو سيبرانية فإنهم لن يترددوا في استخدامها، وهل تذكر فيلم "الجحيم" لتوم هانكس وتأليف دان براون، وكان يدور حول فكرة أن الزيادة السكانية الجارية على مستوى الكوكب يقود إلى حالة مشابهة للجحيم؛ حيث يأكل البشر بعضهم بعضا في مراتب كلها نار وحرائق.
إن التفاؤل والتشاؤم تظل حالة إنسانية تتوقف على حالة كل إنسان على حدة، وقدرته على استقبال أخبار بعينها واستبعاد أخرى، كما تتوقف على ما يذاع من أخبار عن حالة الكون وحالة البشر، فمن المرجح أن معظم الأخبار المتداولة تظل دائما ناقصة، وفيها نوع من الاختيار الذي يميل إلى هذا الجانب أو ذاك
الأمر هكذا يبدو كما لو كان أن التشاؤم سائد بشدة، ولكن الحقيقة على الناحية الأخرى أن هناك من يعتقدون أن العالم يسير في اتجاه السعادة، وأن العام الذي ذهب توا كان أسعد الأعوام! ويمضي السرد خلال العقدين الأخيرين قائلا إن أكثر من مليار من البشر خرجوا من الفقر إلى اليسر في الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطي، وكانت الأغلبية الساحقة من دولتين: الصين والهند، وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن أحوال العالم أفضل الآن عما كانت عليه قبل عقود، وبالتأكيد قبل قرون؛ حيث ارتفعت مستويات المعيشة في دول كثيرة، وتراجعت معدلات حدوث المجاعة والأوبئة، ولم يكن لذلك أن يحدث لولا الثورة العملية والتكنولوجية، وتزايد الثروات في الدول، والأهم من هذا وذاك، وربما باستثناء منطقة الشرق الأوسط، تراجع الصراعات الدولية والحروب الأهلية، كل ذلك لم يكن ممكنا حدوثه لولا أن الغالبية من دول العالم أصبحت تسعى إلى التقدم والتنمية، وحدث ذلك من خلال حشد وتعبئة الاستثمارات الداخلية والخارجية وراء تحقيق تراكم رأسمالي يسمح للدولة بتحقيق معدلات عالية للنمو تنقلها من صفوف الدول النامية إلى تلك المتقدمة.
"نيكولاس كريستول" نشر مؤخرا مقالا في النيويورك تايمز (٢٨ ديسمبر) بعنوان "هذا العام هو أفضل الأعوام أبدا"، افتتحه بالقول "إن حياة البشرية في عمومها تستمر في أن تكون الأفضل"، وأنه في المنحنى الطويل للبشر فإن عام ٢٠١٩ كان أفضلها على الإطلاق، لقد ظهر البشر على الأرض قبل ٢٠٠ ألف عام، وفي ٢٠١٩ فإنه ربما يكون العام الذي تقل فيه إمكانية وفاة الأطفال، وأن يكون البالغين فيه على الأرجح متعلمين، ويكون فيه أقل الاحتمالات التي يتعذب فيها الناس نتيجة أمراض مؤلمة ومسببة لتشوهات عضوية معذبة. وفي السنوات الأخيرة فإنه في كل يوم يحصل ٣٥٠ ألف نسمة على الكهرباء، و٢٠٠ ألف على مياه نظيفة، ويدخل فيه لأول مرة ٦٥٠ ألف نسمة على شبكة الإنترنت، وربما كانت أكثر مصائب الإنسان هو أن يفقد طفلا، ومن الناحية التاريخية كان ذلك شائعا فكان نصف البشرية يموت في مرحلة الطفولة، وفي عام ١٩٥٠ فإن ٢٧% من البشر ماتوا قبل أن يصلوا إلى سن ١٥، والآن فإن هذه النسبة هبطت إلى ٤%، ويمضي كاتب المقال في مقاله إلى سؤال قارئيه: إنه إذا كنت سوف تختار العصر الذي تعيش فيه بين العصور المختلفة فسوف تختار العصر الحالي رغم كل ما فيه من عيوب، فقد هبطت فيه نسبة الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولارين يوميا من ٤٢% في عام ١٩٨١ إلى ١٠% في عام ٢٠١٥، أي بنسبة ٧٥% في أقل من أربعة عقود.
ويذكر الكاتب أن عدد الذين يعيشون على ١٠ دولارات في اليوم قد زاد ٢٤٥ ألف نسمة "أمس" أي في ٢٧ ديسمبر، هذا المقال ومقالات وبحوث كثيرة أخرى تمضي متفائلة إلى أن العالم الآن يكاد يخلو ليس فقط من المجاعة وإنما من الأوبئة، وجرى التخلص تقريبا من أمراض مستعصية مثل الطاعون وشلل الأطفال والجذام والملاريا، ويضاف إلى ذلك إلى أن العالم الآن أكثر تعليما، ومن ثم يعطي فرصا أكبر للتقدم.
ومع ذلك فإن التفاؤل والتشاؤم تظل حالة إنسانية تتوقف على حالة كل إنسان على حدة، وقدرته على استقبال أخبار بعينها واستبعاد أخري، كما تتوقف على ما يذاع من أخبار عن حالة الكون وحالة البشر، فمن المرجح أن معظم الأخبار المتداولة تظل دائما ناقصة وفيها نوع من الاختيار الذي يميل إلى هذا الجانب أو ذاك، وأحيانا يكون ذلك من أجل جذب الاهتمام لقضية بعينها، فالعالم من وجهة النظر هذه لم يكون مهتما إذا علم أن الإنسان قد عرف الاحتباس الحراري من قبل، أو أن العصور الجليدية كانت أكثر قسوة من الأزمنة التي يدخلها الانسان الآن وهو أكثر استعدادا لمواجهتها، وهذه في حد ذاتها أخبارا طيبة.
النهاية هي أنه ربما لا تكون أسئلة التفاؤل والتشاؤم هي الأسئلة الصحيحة، التي ربما سوف تكون أكثر صحة لو كانت عن كيف نعيش الآن وليس من قبل أو بعد ذلك؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة