هكذا يعملون على إلهاء العراقيين بصراع كان بين هارون الرشيد وموسى الكاظم، من خلال بعثهما إلى الحياة.
يتندر العراقيون بقولهم إنهم لن يروا شارع الرشيد الشهير في قلب العاصمة العراقية بغداد عامراً إلا بعد تحويل اسمه إلى شارع موسى الكاظم. هذه ليست مزحة بل حقيقة يتداولها العراقيون، فهذا الشارع قد تم إهماله على مدى 16 عاماً بسبب اسمه الذي يثير حفيظة الأحزاب السياسية الدينية التي تتحكم بمصير العراق. والبعض يقترح تغيير اسمه حتى لا يتحول إلى مكبٍّ للنفايات كما هو الحال في الوقت الحاضر.
هذا موضوع له علاقة بالصراع على السلطة وليس بحياة الناس. وبدلاً من تحويل ذكرى هارون الرشيد إلى تراجيديا لأسباب طائفية معروفة، يمكن الاستفادة من إنجازاته الهائلة في النهضة العلميّة والأدبيّة في عصره، وتقريب الشعراء، وأهل العلم، والأدباء من مجالسه، وتطوير نشاط التجارة الخارجيّة، وتوطيد العلاقات مع ممالك أوروبا
يتزامن في الوقت الحالي ذكرى إحياء سجن وتسميم ووفاة الإمام موسى الكاظم في عهد هارون الرشيد، وهو المتهم الأول في هذه القضية التي تقفز إلى الواجهة كل عام. انصبت على هذا الشارع التراثي اللعنات منذ الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وحتى الآن رغم مطالبة العراقيين بإصلاحه وترميم أبنيته ومحلاته التراثية، إلا أن هناك أصواتا كثيرة تطالب بتغيير اسم الشارع. هم يعيشون ترف هارون الرشيد، لكن الفرق بينهما، هو أن هارون الرشيد جعل من بغداد صرحا عظيما ومن الإسلام شمسا ساطعة، بينما حوَّل الحكام الحاليون بغداد إلى خرائب والإسلام إلى تعازٍ ولطم!
هل يمكن أن يصل الجهل إلى هذه الدرجة بحيث يتم إهمال شريان بغداد بسبب اسمه؟! لنفترض جدلاً إذا هم غيّروا اسم الشارع، فهل يستطيعون بذلك تغيير مجرى تاريخ أعظم خلفاء المسلمين هارون الرشيد؟ وقد سبق لهم أن استبدلوا أسماء المستشفيات والمدن التي تأسست في العهد الملكي والقاسمي والصدامي لتصبح بأسماء لا تمت بأي صلة عمرانية إلى الأسماء الجديدة كمستشفيات الحسين والزهراء والصدر والحكيم التي تأسست في زمن نظام صدام حسين، ومدينة الصدر وشارع السيد الخميني وتقاطع السيد باقر الحكيم وغيرها من المعالم، ولكنها لم ترق إلى أي جودة ومن أي نوع، ولا تزال مؤسسات فاشلة.
هكذا يعملون على إلهاء العراقيين بصراع كان بين هارون الرشيد وموسى الكاظم، من خلال بعثهما إلى الحياة، وإعادة معارك الأمس بالسيوف والقوس والنشاب والمنجنيق، لكي يهربوا من الاستحقاقات الحالية والعاجلة. ولا تهمهم الأحداث الحالية والأزمات: "الفيضانات، انعدام الكهرباء، انتشار المخدرات، الماء المالح في البصرة، حالة المستشفيات، أوضاع النازحين، إعمار المدن المخربة، حالات الفساد في المؤسسات"، بل إن كل ما يهم هو ما حصل بين هارون الرشيد وموسى الكاظم.
ولا يزال النواب العراقيون يتشاجرون على اسم هذا الشارع لأن بعضهم يعتبرون هارون الرشيد عدوهم لأنه سجن وسمم وقتل أمامهم موسى الكاظم. فقد انتهوا قبل أيام من إحياء ذكرى وفاته بمليون زائر حسب التقديرات الرسمية. يا للعجب، إنهم يوظفون معارك الماضي لنيل ثمار الحاضر.
ولا يقتصر الأمر على شارع الرشيد بل يمتد إلى تغيير كل اسم يمت بصلة إلى العهد العباسي، مثل إلغاء تسمية حي المأمون، والمدرسة المأمونية، وبيت الحكمة وغيرها. نحن نعيش مسلسلاً تاريخياً على أرض الواقع، وليست لدينا القدرة على تغيير مساره، كما لا نستطيع أن نغيّر مسار الصراع الحالي في العراق بين أنصار العباسيين وأعدائهم. من الواضح أن كابوس التاريخ ينهض في نفوس هؤلاء المرضى، فلا يستفيدون من عِبره ودروسه في رؤية الحاضر، بل يعملون على تحويل التاريخ إلى صراع طائفي لا أكثر. وكأن مشاكل العراق كلها وجدت طريقها إلى الحل؛ الكهرباء والسكن والماء والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامته، ولم يبق لنا سوى العودة إلى التاريخ.
هل يسترشد هؤلاء بما وصل إليه عهد هارون الرشيد من علم وثقافة وحوار وازدهار؟ أبداً لا، إنهم يستذكرون من ذلك العهد الزاهي حادثة وفاة موسى الكاظم فقط.
ما الفائدة من استرجاع ذلك الصراع على السلطة؟
كان موسى الكاظم من المقربين في قصر هارون الرشيد، قبل وصول الأخبار عن جمعه للأموال من الحجاز، والقيام بحركة تمرد، فأمر هارون الرشيد بسجنه، ومات فيه، كما يقول لنا التاريخ.
لنفترض جدلاً كل ما حصل، هل يعني ذلك أن نهمل حياة العراقيين، ونحرمهم من أبسط حقوقهم في العيش الكريم، وإطلاق يد الفساد.
وإذا أردنا أن نحاسب هارون الرشيد على ذلك، ألم يحارب علي بن أبي طالب الخوارج لأنهم ثاروا ضده؟
هذا موضوع له علاقة بالصراع على السلطة وليس بحياة الناس. وبدلاً من تحويل ذكرى هارون الرشيد إلى تراجيديا لأسباب طائفية معروفة، يمكن الاستفادة من إنجازاته الهائلة في النهضة العلميّة والأدبيّة في عصره، وتقريب الشعراء، وأهل العلم، والأدباء من مجالسه، وتطوير نشاط التجارة الخارجيّة، وتوطيد العلاقات مع ممالك أوروبا، خاصة شارلمان وهو الذي زاد من رقعة الإسلام بفتوحاته، ونشر الأمن والرخاء، وكثُر الخير في عهده، وهو القائل: "أينما تمطرين فخراجك يأتيني"، وقد جعل من بغداد دار علم وترجمة ضاهت عواصم الدنيا آنذاك. في حين ظلت العاصمة العراقية بغداد الأسوأ في المسح السنوي الذي أجرته مؤسسة "ميرسر" العالمية للاستشارات!
أين حكّام العراق الحاليون من هذا الشأن الذي وصل إليه هارون الرشيد الذي يستثقلون عليه تسمية شارع باسمه؟
ولو كان موسى الكاظم خليفة، ونقل بغداد تلك النقلة، لصارت أسماء شوارعها ومحلاتها باسمه، وهو أمر طبيعي. كما أن التسميات لا تعني شيئاً الآن. وما أسماء الشوارع والمحلات إلا رموز، فحي المنصور وشارع الرشيد انفصلا عن الاسم نفسه، وأخذا معاني أُخرى في الذاكرة.
والآن لماذا لا تبني الأحزاب الدينية والمليشيات التي تحكم بناءً يُضاهي ما تركه هارون الرشيد والمأمون، وعندها لهم الحق بتسمية ما يريدون، لكن ألم يروا ألا شيء في عهدهم سوى الحطام والخراب والفساد؟ لماذا هذه المزايدة إذاً؟ لو كان العراقيون انتخبوهم، فذلك للإعمار لا للهدم.
إلى متى يستمر هذا النفس الطائفي المقيت؟
هارون والكاظم قد ماتا قبل أربعة عشر قرنا، لكنهما ما زالا حيين، وهل على العراقيين أن يعيشوا صراعات عصرهما والتخلي عن عصر التكنولوجيا والعلم والتقدم؟ هل يجب تغيير اسم شارع الرشيد إلى شارع الكاظم حتى يمكن إصلاحه؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة