زكي نجيب محمود.. مسيرة وقصة عقل أديب الفلاسفة ورائد "الوضعية"
هل يمكن أن يكون زكي نجيب محمود من أواخر الفلاسفة العرب؟ رجل استطاع أن يُطور الأوضاع الثقافية، ويطرح الأفكار الفلسفية.. فمن جاء بعده؟
هل نعاصر في وقتنا الحالي فيلسوفا معاصرا ومجددا؟ أو مفكر حاصل على درجات علمية مرموقة وفكر أنيق متسلح بالعلم والمعرفة، مع استعراض مسيرة الفيلسوف والمفكر المصري الدكتور زكي نجيب محمود قد نلحظ أنه من بين آخر الفلاسفة العرب تقريبا، فكان رائد الفلسفة الوضعية المنطقية في وطننا العربي، وحمل على عاتقه تجديد الفكر والثقافة.
زكي نجيب محمود
من العقاد إلى محمود أمين العالم وعبد الرحمن بدوي، وأصحاب العقول العربية المستنيرة نحو الفلسفة والفكر ويأتي زكي نجيب محمود على رأسهم، صار شحيحا ويكاد يكون مستحيلا أن نجد قامة فكرية فلسفية معاصرة، فمع رحيل المفكرين المصريين والعرب، لم تعد الثقافة العربية تحترم عقل القارئ وتنهض به.
في الأول من فبراير عام 1905 ولد الفيلسوف المفكر زكي نجيب محمود في قرية ميت الخولي بمحافظة دمياط، ثم انتقل مع أسرته إلى السودان، حيث امضى معظم سنوات طفولته، بسبب عمل والده، وفي عام 1930 حصل على الليسانس في الآداب والتربية من مدرسة المعلمين العليا.
سافر في بعثة إلى إنجلترا عام 1944 لدراسة الفلسفة في جامعة لندن، وبقي بها حتى نال درجة الدكتوراة من كلية الملك عام 1947 وحملت رسالته عنوان "الجبر الذاتي"، عمل أستاذا للفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة بعد عودته من لندن، كما عمل استاذا زائرا بجامعة كولومبيا في اكرولينا الجنوبية بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1952.
المناصب التي شغلها زكي نجيب محمود
شغل منصب الملحق الثقافي بالسفارة المصرية في واشنطن خلال عامي 1954- 1955، وفي عام 1968 انتقل زكي نجيب محمود إلى الكويت وعمل بالجامعة أستاذا للفلسفة بالجامعة لمد خمس سنوات متصلة، وتم انتدابه للعمل لفترة في وزارة الإرشاد القومي (الثقافة)، وكان عضوا في عدد من اللجان الثقافية، فتم اختياره لعضوية لجنتي الشعر والفلسفة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وكان عضول بالمجلس القومي للثقافة، والمجلس القومي للتعليم والبحث العلمي.
مجلة الفكر المعاصر
ترجع مشاركاته الفكرية إلى عام 1932، حين كان ينشر مقالات فلسفية بمجلة الرسالة، ثم انضم مع المفكر أحمد أمين إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر لتقديم سلسلة كتب حول الفلسفة وتاريخ الأدب، وقدما معا كتب: قصة الأدب في العالم، وقصة الفلسفة الحديثة، وقصة الفلسفة اليونانية.
وفي عام 1965، أوكلت إليه وزارة الثقافة مهمة تأسيس ونشر مجلة فكرية ثقافية معاصرة، على أن تكون المجلة مهتمة بنشر الأمور الفلسفية وقضايا الفكر وسبل التجديد، وحملت اسم "مجلة الفكر المعاصر"، كان تُقدم إلى الجمهور شهريا، ورأس زكي نجيب محمود رئاسة تحريرها حتى وفاته في 8 سبتمبر 1993.
فلسفة زكي نجيب محمود
في مقدمة كتابه "تجديد الفكر العربي" واجه زكي نجيب محمود نفسه، معترفا أن مشكلة الثقافة في البلاد العربية لا يمكن أن يكون حلها هو النهل من الثقافة العغربية والتوافق معها، ولكن الحل هو "كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟.. بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا، فنقول: هذا هو شكسبير إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟".
من كلماته، يمكن أن نستنبط منهجه الفكري ونقترب من الفلسفة التي اعتنقها وانشغل بها، فالدكتور زكي نجيب محمود بدا مهتما أن يكون للأجيال القادمة صوتا خاصا صنعته خلطة المعرفة الغربية والشرقية، وانتهج لنفسه الفلسفة الوضعية فلمنطقية، التي ترى أن المعرفة تُستمد من التجارب الحسية والرؤية التحليلية والمعالجات المنطقية الرياضية للبيانات.
الوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود
وكونه امتلك عقلا متفتحا، كان زكي نجيب محمود يشعل عقله بالمعرفة والنقاش الفكري، فلم يكن صلبا جامدا يرفض التجديد أو لا يقبل التراجع عن رأيه، ففي سنوات دراسته الأولى وعودته من إنجلترا بعد نيل درجة الدكتوراة، كان يختص الغرب بالمعرفة، معتقدا أن البلاد العربية لم تنجب فكرا ولم تقدم معرفة فلسفية، لكن مع انفتاحه على التراث العربي الإسلامي تراجع الفيلسوف عن موقفه.
وبعد هيامه في الثقافة الغربية، انحسر شعوره بالعار أمامها، فور أن اكتشف كتابات اب رشد وأبو حامد الغزالي، راجع زكي نجيب محمود نفسه، بعد أن كان منظرا للفلسفة الوضعية هجا نفسه، مستنكرا أن ينساق وراء الفكر الغربي وفلسفته دون أن يجدد ويقدم للفكر العربي منهجا مؤثرا ناتجا عن خلاصة أفكاره، وقال عن ذلك "وماذا في أن أزداد تفكيرا فأتغير؟ إن إيمان المرء ليزداد بفكرته إذا ما جاءت بعد شك فاحص متعمق؟"، وراى انه لم ينقض ما قدمه ولكنه أضاف إليه، وتخلى عن أمنيته بأن تكون بلاد العرب قطعة من الغرب "لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي".
أحمد زكي.. بـ"غباء وعجرفة" فشل في تكوين أسرة وورث ابنه الوحدة
أفضل كتب زكي نجيب محمود
تنوع إنتاج زكي نجيب محمود ما بين تقديم الأفكار الفلسفية ومناقشة سبل تجديد الفكر والثقافة العربية، والتطرق كذلك إلى التحديات التي تواجه الفكر العربي، غير أن له إنتاجات أدبية كذلك، جعلت عباس العقاد يمنحه لقب "فيلسوف الأدباء واديب الفلاسفة"، كونه استطاع أن يقدم الأدب في قالب فلسفي، والفلسفة في نسق أدبي.
روايات زكي نجيب محمود وكتبه
ومن بين أهم مؤلفات زكي نجيب محمود التي وصلت إلى أكثر من 50 عملا، نذكر لكم:
- رواية جنة العبيط- 1947.
- رواية شروق من الغرب- 1951
- موقف من الميتافيزيقيا- 1953.
- الكوميديا الأرضية- 1953.
- أيام في أمريكا- 1957.
- نحو فلسفة علمية- 1958.
- في فلسفة النقد- 1979.
- قيم من التراث- 1984.
- ديفيد هيوم- 1985.
- في مفترق الطرق- 1985.
- هذا العصر وثقافته- 1987.
- في تحديث الثقافة العربية- 1987
- حصاد السنين (سيرة ذاتية)- 1992.
- قصة عقل (سيرة ذاتية)- 1993.
ونال الدكتور زكي نجيب محمود عن مسيرته عددا من الجوائز العلمية المرموقة، منها: جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفية 1960، وجائزة الدولة التقديرية في الأدب 1975، وسام الجمهورية من الطبقة الأولى 1975،الدكتولاراة الفخرية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1985، جائزة السلطان بن علي العويس 1991.
كان زكي نجيب محمود علامة فكرية فلسفية ما زال باحثو الوطن العربي ينهلون منها المعرفة، فكان مرجعا لهم ومؤثرا حقيقيا في مسار الثقافة العربية وسبل التجديد، وبرحيله ومفكري جيله صار المشهد الثقافي خاويا من سجالات الفلسفة والنقاش حول تياراتها، وبات العالم العربي يعاني فقرا معرفيا.