"الإسلاموفوبيا".. عن أوروبا الأخرى والمسلمين الآخرين
يختلف التعامل مع مسلمي أوروبا من مجتمع إلى آخر، لكنه يجتمع على أنهم كتلة واحدة، تنطبق على كل أفرادها شروط الاتهام والتهميش
تختلف مسألة التعامل مع ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في أوروبا من مجتمع إلى آخر، ومن حكومة إلى أخرى، ومن حزب إلى حزب ثانٍ، لكنها تجمع على تشخيص واحد، سواء تم التعبير عنه بصراحة فجة أو بتورية خبيثة: المسلمون الأوروبيون هم كتلة واحدة، تنطبق على كل فرد منهم شروط الاتهام، والتشكيك، والتهميش.
هذه الرؤية سببت استعصاءات في تصويب العلاقة بين طرفين، لذلك ساد منطق الرفض، أو الارتياب، أو الخروج عما يسميه الأوروبيون الولاء للمكان واشتراطاته.
في ما يلي مقاربة تعبر عن رؤية مفارقة للموضوع، كتبتها ناتالي نوجايريدي، كاتبة الرأي الرئيسية في صحيفة “الجارديان” البريطانية، والتي كانت حتى وقت قريب مديرة التحرير المسؤولة في صحية "لوموند" الفرنسية.
تستكشف نوجايريدي في مقالها حقيقة أن المسلمين الأوروبيين هم مكونات لا تشبه بعضها البعض، ما خلا الانتماء الديني، وإن مسألة الانتماء الجغرافي (الوطني) تعد عاملًا رئيسيًّا عند قطاع كبير بينهم، وإن على الحكومات الأوربية أن تعتمد هذا التنوع في التعامل مع المسلمين الأوروبين لكي تحل استعصاءً تاريخيًّا بين الطرفين.
وهنا نص المقال:
مع ازدياد حجم المشاعر المثارة في أوروبا بسبب تأثير أزمة اللاجئين، وتنامي الغرائز الشعبوية، والخوف من الإرهاب، ناهيك عن الجدل الذي خلط بين العلمانية و"البوركيني"، واستكشاف ما يعتقد به المسلمون الأوروبيون، فإن ما تشهده أوروبا اليوم لم يكن أبدًا بهذه الأهمية، ومن الشخصيات المثيرة للاهتمام مفتي سلوفينيا الذين التقيت به في مؤتمر عقد مؤخرًا في النمسا، نظمه معهد السلام الدولي، سلوفينيا هي بلد كاثوليكي من مليوني شخص، بينهم ما يقدر بـ50 ألف مسلم، أول مسجد في البلاد هو حاليا تحت الإنشاء في العاصمة ليوبليانا، وقد تطلب إنشاء هذا المسجد التغلب على العديد من العقبات السياسية والإدارية، التي أزيلت في نهاية المطاف عندما قضت المحكمة الدستورية في سلوفينيا بأنه يحق للأقلية، توفير مكان للعبادة بما لا يتعارض مع الحريات الدينية، و مما لا يثير الدهشة، فإن المفتي نزاد جاربوس Nezad Grabus يعتقد بأن الظروف الحالية هي أوقات صعبة بالنسبة للمسلمين في أوروبا؛ إذ إن عليهم باستمرار درء الشبهات حول أية روابط لهم مع المتشددين أو الإرهابيين.
جاربوس الأربعيني هو رجل هادئ مبتسم، وإذا كان هناك شيء واحد يريد أن يؤكد عليه فهو أن "الإسلام هو جزء من الحضارة الأوروبية" الإسلام، كما يقول، هو بأي حال من الأحوال "الدين الجديد في أوروبا". يقول إنه أصيب بالصدمة عندما تم حظر ارتداء "البوركيني" هذا الصيف في بعض المنتجعات الساحلية الفرنسية، وإنه يعارض صراحة أي تشريع يحظر الحجاب، لكنه يقول أيضًا، إن النقاب هو شيء يجب على المسلمين الأوروبيين العمل لمواجهته؛ لأنه يمنع النساء المسلمات من العثور على المكان الصحيح في المجتمع، ولد جاربوس في بلدة ترافنيك البوسنية (والده انتقل في وقت لاحق مع أسرته إلى سلوفينيا حيث وجد عملًا، عندما كانت جزءًا من يوغوسلافيا الشيوعية). إذن هو مسلم من البلقان، والإسلام هو بالتأكيد ليس جديدًا في البلقان، فهي المنطقة التي كانت لقرون تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية.
مثلما أوروبا هي خليط من الثقافات والأمم، فإن السكان المسلمين في أوروبا هم متنوعون للغاية، كما هو تاريخهم، هذا قد يبدو واضحًا، ولكنه يسقط تلقائيًّا عند أي مناقشة ساخنة حول الإسلام والهجرة والهوية السياسية، فالمسلمون يميلون إلى مقاربة هذه المواضيع ككيان واحد، "في أوروبا، نحن المسلمون علينا أن نعترف بأنه ليس لدينا رواية مشتركة"، كما يقول المفتي "هناك العديد من الاختلافات".
وعلى سبيل المثال، فهو يشير إلى الخصائص العرقية باعتبارها تلعب دورًا أكثر أهمية مما يدركه كثير من المراقبين، فالمسلمون (في أوروبا وغيرها) أكثر ارتباطًا بجذورهم العرقية أو الوطنية (البوسنية، الألبانية، التركية، الكردية، الجزائرية والباكستانية وغيرها). وبرأيه فإن الإحياء الديني، كما هو الحال في أي دين، لا يعني أنه عليك أن تجرف أجزاء أخرى من هويتك.
ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك "رواية مشتركة"، إلا أن جاربوس يصر على أن "بوصفنا مسلمين في أوروبا، فإن واجبنا هو إيجاد مثل هذه الرواية التي تستطيع تقديم فهمنا للإسلام وللانتماء إليه هنا" وذلك، كما يشير، لا علاقة له مع التعليم والتغلب على الجهل، سواء بين المسلمين وغير المسلمين، كم من الناس، يسأل المفتي، يعرفون أن المجر النمساوية، تحت حكم آل هابسبورغ، اعترفت بالإسلام كدين رسمي منذ فترة طويلة عام 1912؟ وكم عدد الذين يعلمون أن أول مسجد في فرنسا تم بناؤه من قبل الجمهورية الفرنسية العلمانية (في باريس، خلال عقد العشرينات من القرن الماضي) بمثابة تحية لعشرات الآلاف من المسلمين الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى؟ وكم عدد الناس الذين هم على استعداد للقبول بأن أهم علماء العصور الوسطى ابن رشد، ولد في قرطبة عندما كانت الأندلس تحت حكم العرب، وبالتالي كان مسلمًا أوروبيًّا؟
مع كل التوجس الحالي من الإرهاب والتطرف، فإنه من السهل أن ننسى التنوع في أوروبا، وتنوع سكانها المسلمين، بعد أيام من حديثي مع جاربوس، كنت في كولونيا، للقاء ممثلي الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية (كجزء من مجموعة الدراسة في ألمانيا لأزمة اللاجئين، والتي تنظمها مؤسسة روبرت بوش). المسجد المركزي في مدينة كولونيا، مبنى حديث جميل مع جدران من الخرسانة والزجاج، وقبة على غرار القباب العثمانية. ورغم أنه لا يزال قيد الإنشاء، لكنه يقدم دليلًا على بعض التغيرات الاجتماعية الجارية الآن.
يعيش نحو مليون مسلم في ولاية وستفاليا الألمانية شمال الراين، أي ثلث المجتمع التركي القوي المكون من 3 ملايين في ألمانيا، والاتحاد التركي الإسلامي لديه علاقات مؤسسية قوية مع الدولة التركية، وهو الأمر الذي أدى ببعض السياسيين الألمان للتعبير عن الشكوك حول مسألة الولاءات، وقد استغرق الأمر عقودًا لألمانيا لمواجهة حقيقة أن المهاجرين من العمال الأتراك، الذين وصل معظمهم إلى البلاد خلال عقدي الخمسينات والستينات، يحق لهم الحصول على المواطنة واعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، وإنهم قد استقروا نهائيًّا وليس مؤقتًا، لكن مراد كايمان Murat Kayman، وهو عضو في الاتحاد التركي الإسلامي، يقول "الموقف تجاه المسلمين لم يكن يومًا بهذا بالسوء"، فالحوادث المعادية للمسلمين والعنصرية آخذة في الارتفاع، وقد تبدت ضغوط إضافية، مع حقيقة أن ألمانيا تتصارع الآن مع دمج أكثر من مليون لاجئ وصلوا في عام 2015 وكثير منهم من العالم العربي، وقد تلاشت “ثقافة الترحيب” التي راجت في العام الماضي، مع عمليات الاستثمار الانتخابي التي مارسها اليمين المتطرف، ما دفع أنجيلا ميركل إلى القول بشكل غامض في خطاب لها: "إن ألمانيا لا تزال ألمانيا".
ما أدهشني بينما كنت أتحدث إلى مفتي سلوفينيا وقادة المسلمين الأتراك في كولونيا هو ذلك القليل من الاتصال والتبادل بين المسلمين وبعضهم البعض، أو مع الجاليات المسلمة في فرنسا أو بريطانيا أو الدول الإسكندنافية، تماما كما الدول الأوروبية التي تتعامل كل على حدة مع قضايا مثل التعددية الثقافية، والتكامل، والنماذج المتباينة للعلاقات بين الدين والدولة، فإن السكان المسلمين الأوروبيين هم أيضًا يواجهون هذه المشكلات بشكل منفصل ومجزّأ، وهذا التباين الذي تغرق فيه المناقشات وتعقيداتها، هي انعكاس لنقاش تاريخي خاضته أوروبا حول الإسلام.
المؤرخ توني جودت Tony Judt كتب ذات مرة عن الحاجة إلى "خريطة معالم متداخلة حول انقسامات الهوية الأوروبية والخبرة الناتجة عنها"؛ لأنه "في عصر التحول الديمغرافي وإعادة التوطين، فإن الأوروبيين اليوم هم أكثر عددًا وغير متجانسين من أي وقت مضى". وكيف ستتمكن المجتمعات الأوروبية من احتضان نمو التنوع في نواح كثيرة، فإن ذلك سيحدد مصير الديمقراطية لدينا، إن إيلاء مزيد من الاهتمام للاختلافات بين المسلمين في أوروبا، بدلًا من النظر إليهم على أنهم كتلة واحدة متجانسة، يمكن أن يكون وسيلة للمضي قدمًا.