فى حديثنا عن التاريخ وفى تعاملنا معه يجب علينا أن نميز بين التاريخ كما حدث بالفعل وبين صورته التى انطبعت له فى أذهاننا
فى حديثنا عن التاريخ وفى تعاملنا معه يجب علينا أن نميز بين التاريخ كما حدث بالفعل وبين صورته التى انطبعت له فى أذهاننا، لأننا نخلط خلطا ذريعا بين الأصل والصورة، فلا نعرف التاريخ ولا نعرف بالتالى أنفسنا.
نحن ننظر للتاريخ كما ينظر له الكهان فنراه سلسلة من المعجزات والنكبات التى ننسبها كلها لغيرنا، ولهذا لا نرى شيئا.
نحن نتبرأ من أعظم عصور تاريخنا وأحفلها بالأعمال المجيدة التى أنجزناها بأيدينا لأننا نزنها بميزان الحلال والحرام الذى تبنيناه فى عصور تالية. ونحن فى المقابل لا نكاد نشعر بما أصابنا فى هذه العصور من تخلف اعتبرناه قضاء وقدرا، وأصبح بمضى الوقت واستسلامنا له مناخا معتادا نستطيع أن نتنفس فيه ونتعايش معه.
وقد آن لنا أن ننظر لتاريخنا، لا باعتباره أقدارا تلعب بنا كما تلعب الرياح الهوج بالورق الجاف، بل باعتباره رؤى رأيناها وأعمالا قمنا بها فأصبنا مرات وأخطأنا مرات لا بفعل أيد خفية، ولكن لأسباب فينا وفيما يحيط بنا نستطيع أن نكتشفها ونحسب حسابها ونستفيد منها لو قرأنا تاريخنا وتمثلناه واعترفنا به وانتسبنا له. وهذا هو الشرط الذى لم نلتزم به حتى الآن.
التاريخ عند أكثرنا حكايات ونوادر تصح فيها كل الروايات. لأنها وقد أصبحت ماضيا لم تعد تنتمى فى نظرنا القاصر للواقع، فباستطاعة من شاء أن يتخيلها وأن يضيف إليها ما يعجبه ويتجاهل وينكر ما لا يعجبه وما لا يستفيد منه، و،بهذا يجعل الحاضر ويجعل نفسه مرجعا للماضي، ويحول الماضى إلى شاهد زور على الحاضر. ولنتوقف هنا لنسأل أنفسنا عما نعرفه من تاريخنا القديم.
نحن نعرف أن تاريخنا يمتد فى الماضى القريب والبعيد سبعة آلاف عام ما هى المساحة التى نعرفها من هذا التاريخ العريض؟ ما هى حدودها؟ وما الذى تحقق فيها؟ وكيف بدأت وكيف انتهت؟
إننى أنظر فيما نقول ونفعل فى نشاطنا العام والخاص فلا أجد للتاريخ حضورا فى حياتنا، بل أجده غائبا منفيا ومعرضا دائما للتلفيق والتزوير بدوافع مختلفة تستخدم فيها العقائد الدينية وغيرها، لكنها تعود فى النهاية إلى السياسة وخاصة للسلطة التى لا يتورع القائمون عليها عن أى عمل يضمن لهم انفرادهم بها وبقاءهم فيها. والمصريون، أو معظمهم، لا يعرفون من تاريخهم القديم إلا الفراعنة. ولا يعرفون عن الفراعنة إلا أنهم كانوا طغاة متألهين. لا يعرفون أن أجدادهم فى تلك العصور الأولى روضوا النيل واستأنسوه، وأصلحوا الأرض وكشفوا عن خصوبتها، وعرفوا العدالة وجعلوها ضميرا يقظا يمتليء به الصدر ويرجع له الإنسان فيعرف معنى الحق ومعنى الخير ومعنى الجمال.
والمصريون لا يعرفون من تاريخهم الوسيط إلا ما رواه لهم غيرهم. لأنهم فى هذا التاريخ الوسيط فقدوا استقلالهم وأصبحوا رقيق أرض فحسب ورعايا لحكام أجانب هم وحدهم الذين كان لهم الحق فى أن يصنعوا التاريخ ويكتبوه. وإلا فما الذى صنعناه نحن منذ انهارت دولتنا القديمة وخضعنا للفرس واليونان والرومان والعرب والمماليك والأتراك؟
قاومنا لاشك. لكن ما الذى نعرفه عن هذه المقاومة؟ عن الظروف التى أحاطت بنا فيها، وعما قدمناه خلالها وجنيناه من أرباح وخسائر؟ بل نحن لا نعرف حتى تاريخنا الحديث، لا فى القرن التاسع عشر فقط حين خرجنا من عصور الظلام وسرنا فى الطريق إلى الاستقلال والتقدم والديمقراطية، بل حتى فى القرن العشرين وفى عقوده الأخيرة التى عاشها الكثيرون وعاشوا أحداثها. ما الذى نعرفه عن هذه الأحداث؟ عما وقع لنا فى العهد الملكى وفى العهد الذى تلاه؟ عن الخمسينيات، والستينيات، والسبعينيات.. إلى آخره وإلى اليوم؟
وأنا أعرف أن هذه ليست المرة الأولى التى أتحدث فيها عن علاقتنا السيئة بتاريخنا. وجوابى على هذا أن التاريخ الذى أتحدث عنه ليس مجرد زمن مضى وانقضي، وليس معلومات نتذكرها بعض الوقت ثم ننساها، وإنما هو قبل كل شيء وعى إما أن يكون حاضرا وصحيحا فنحن نعرف مواطيء أقدامنا فى الحاضر والمستقبل، وإما أن يكون غائبا وفاسدا فنحن فى متاهة لا نعرف لنا فيها غاية ولا نميز بين ماض وحاضر. وربما اشتبهت فى نظرنا الطرق فظننا أننا فى الطريق إلي
المستقبل وإذا نحن مغروسون فى الماضي. وربما كان الماضى هو منذ البداية مقصدنا أو مقصد بعضنا. وقد رأينا خلال السنة التى استولت فيها جماعات الإسلام السياسى على السلطة كيف نظرت هذه الجماعات للتاريخ، وكيف اعتبرت نهضتنا الحديثة ردة جاءت هى لتضع لها حدا وتدفع بنا فى الطريق الصحيح الذى رأينا أنه لم يكن إلا طريق العودة للظلمات التى خرجنا منها.
ومع ذلك أطلقت هذه الجماعات على هذا الطريق اسم النهضة ووجدت من يصدقها، لأنها نجحت فى الربط بين الإسلام وبين الماضى الذى أخفت عوراته وحولته الى فردوس مفقود. وبهذا أصبحت العودة الى الماضى إيذانا بالعودة الى الإسلام. وبهذا زيف السؤال المطروح علينا، فلم نعد مخيرين بين التخلف والتقدم، وإنما أصبح الخيار بين الخروج من الإسلام والعودة إليه، وبهذا استعادت الردة معناها الدينى الذى عرفت به فى حروب الردة وأصبح الإرهاب دفاعا عن الاسلام وجهادا فى سبيل الله!
هكذا نستطيع أن نفهم النتائج المأساوية للخلط بين التاريخ والدين وبين التاريخ كما حدث والتاريخ كما تريده السلطة، وكما يكتبه من يعملون فى خدمتها. وعلينا إذن أن نراجع فهمنا للتاريخ وأن نعيد قراءتنا له، لا لنصحح فقط معلوماتنا، ولكن لنصحح وعينا بالواقع ووعينا بالعالم ووعينا بأنفسنا.
نحن نسمع ما يقال عن تاريخنا ونقرأ مايكتب فيه فلانجد فى كثير من صفحاته مايلبى حاجتنا الطبيعية لاحترام أنفسنا والاعتزاز بأصولنا والثقة فى قدرتنا على بناء حياتنا وحل مشكلاتنا. والغريب العجيب أن يكتب تاريخيا على هذا النحو وأن ننظر لأنفسنا هذه النظرة فى الوقت الذى يكاد فيه الحجر ينطق بأن هذا التاريخ المكتوب كاذب مزيف.
صحيح أن الغزاة تكأكأوا علينا أسرابا أسرابا كالجراد واستأثروا كالجراد واستأثروا بخيراتنا ألفى عام، لكننا قاومنا الغزاة ونهضنا من جديد وحملنا السلاح وثأرنا لأنفسنا منهم جميعا فى أقل من ربع قرن. فى أقل من ربع قرن اجتاحت الجيوش المصرية الجزيرة العربية والسودان واليونان وجزيرة كريت وبلاد الشام ووصلت الى قونية فى قلب الأناضول وهددت القسطنطينية والبوسفور. ولولا أن أوروبا الاستعمارية استشعرت الخطر ووقفت فى وجه الجيوش المصرية: الانجليز، والروس، والنمساويون، والأتراك بالطبع وفرضوا على محمد على أن يسحب جيوشه وأساطيله من هذه البلاد، ويكتفى بمصر والسودان لأصبحنا وأصبح العالم المحيط بنا غير مانري. وأنا هنا لا أدعى لمصر أمجاد إمبراطورية أبكيها. فمصر ليست فى حاجة لأى ذرة خارج ترابها الوطني، وإنما أذكر المصريين بقدرتهم على صنع المعجزات أن يفقدوا كل شيء أربعة وعشرين قرنا، ثم يستردوا كل شيء فى أقل من قرن واحد. بل لقد أضافوا الى ما استردوه ما لم يحصلوا عليه من قبل. استردوا دولتهم الوطنية، وأضافوا لها الدستور، والبرلمان، والثقافة المصرية الحديثة. وهذه هى النهضة التى آن لنا أن نعود إليها لنعرفها ولنستأنفها.
نقلاً عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة