ومنذ البداية؛ فُهمت المسرحية كما ينبغي أن تُفهم: إنها لوحة تصوّر أخلاق المجتمع وأهله، في بيئة تشكل موسكو إطارها.
«... تمكن ألكسندر أستروفسكي في هذه المسرحية من نقل صورة صادقة عن مجتمع (موسكو) نهاية الستينات (في القرن التاسع عشر) حين كانت كل فئة من فئات هذا المجتمع، تحاول النيل من الفئة الأخرى، وفي مثل هذه الظروف يظهر غلوموف (الشخصية المحورية في المسرحية) ليركب موجة الوصولية، إنه يقوم في الوقت نفسه بتسجيل كل ما يتراكم في صدره من مرارة مبعثها التعامل مع الآخرين، ومن هنا جاءت يومياته بمثابة تطهير لنفسه المثقلة بالنفاق، وإلى جانب ذلك فإن هذه اليوميات كانت أداة في يد غلوموف ليبرر بها تصرفاته ويمتدح مواهبه مبرهنًا أنه ما من سبيل آخر للعيش في عالم الخداع، لقد وصف غلوموف مجتمعه أبلغ وصف...». بهذه العبارات يقدم المترجم العربي لمسرحية "حتى الشاطر لا بد أن يقع" (جاعلاً عنوانها "لكل عالم هفوة" الذي سنستخدمه هنا) لهذا العمل الذي يعتبر الأشهر بين كل نتاجات الأدب المسرحي الروسي في القرن التاسع عشر، ويقيناً أن من يقرأ هذه العبارات سيخيل إليه على الفور أنه يقرأ تقديماً لواحدة من مسرحيات أوسكار وايلد، ذلك أن أستروفسكي يبدو هنا سباقاً على زميله الأيرلندي في كتابة أعمال، همها الأساس أن تفضح ذهنيات مجتمع يقوم على نفاق متبادل، قد يراه البعض تهذيباً وسلوكيات محترمة.
غلوموف هو هنا الشخصية الرئيسة، ويبدو أقرب إلى شخصيات تحفل بها أعمال موليير ولابيش وفيدو، لكن تأملا أعمق في شخصيته ودورها في المجتمع سيعطيها مكانة مختلفة؛ إنها المرآة التي في تشوهها تعكس حقيقة مجتمع مشوه، وهذا المجتمع تمثله هنا شخصيتان أخريان رئيستان في المسرحية بدورهما، هما ماماييف وكروتسكي، إنهما هنا ينتميان إلى تلك الفئة من المجتمع التي ترى في أي إصلاح وتغيير قضاءً على مكانتها ومكتسباتها، ومن هنا لا يفتأ هذان الشخصان يعبّران طوال المسرحية عن خوفهما من أي جديد قادم، غير أن أستروفسكي بلؤم شديد ورصد دقيق لحال مجتمع موسكو في ذلك الحين يطمئنهما، عليهما ألا يخافا التغيير طالما أن رموزه هم من أمثال غلوموف، صحيح أن هذا يأتي من المكان الآخر، ويفضح بوجوده فساد العالم المهيمن، ولكن أفلا تنتهي المسرحية، بعد أن تكتشف يوميات غلوموف الفاضحة، بأن تتخذ جماعة الأعيان قراراً باجتذاب غلوموف للعمل معها، بعد إنزال العقاب به على ما كتب وفضح؟ أفلا يدل هذا على أن الساعي إلى التغيير والإصلاح، آتياً من الحثالة، لا يخيف طالما أن مسعاه يؤدي به إلى وضع نفسه في خدمة المحافظين في نهاية الأمر؟ ترى هل يتحدث أستروفسكي هنا عن موسكو أواسط القرن التاسع عشر، أم يتحدث عن عدد كبير جدا من المجتمعات التي تتساوى فيها طموحات التغييريين والمعارضين، وأساليبهم، مع الجماعات المطلوب تغييرها وإصلاحها؟ فهل كان أستروفسكي متشائماً إلى هذا الحد؟ في تلك الفترة أجل، لأنه كان يرصد حركية المجتمع ويدهش أمام سقوط تغييريّيه في فخ الاتجاه المحافظ، لكنه لاحقاً في أعمال كتبها خلال سنواته، راح ينظر إلى نواح أخرى، إلى حيث يعيش ويعمل أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير، أولئك الذين ينقصهم الوعي للتحرك.
كتب أستروفسكي -الذي كان واحداً من أخصب كتاب المسرح الروس في زمنه- مسرحيته هذه في العام 1868، لتقدم للمرة الأولى في العام نفسه في سانت بطرسبرغ، ومنذ البداية فُهمت المسرحية كما ينبغي أن تُفهم: إنها لوحة تصوّر أخلاق المجتمع وأهله، في بيئة تشكل موسكو إطارها، وقد كانت موسكو في ذلك الحين تزخر بالنماذج الاجتماعية المختلفة، فالزمن كان زمن الصخب والأفكار الكبيرة، وكان من المعتقد بأن تغييرات كبرى لا شك ستظهر قريباً، في وقت كانت طبقات النبلاء الوارثة، تخالط طبقات أدنى منها، والجميع يبدو صاحب قناع لا يكشف حقيقته، وفي ظل ذلك المناخ ظهر المغامر الأفّاق غلوموف ذو الأصل الوضيع، وقد آلى على نفسه أن يستغل ذلك الوضع المختلط ليحقق مآربه في الجاه والثروة، معتمداً على وسامته وحذلقته الكلامية وعلى مبادئ ليس للضمير مكان فيها، ومنذ البداية يدرك أن زواجه من وارثة ثرية هي ابنة أخ السيدة تاروسينا، سيكون خير منطلق له لغزو هذا المجتمع المزيف. وعلى الفور يقوم بخبطته الأولى، إذ يلفت النظر إلى نفسه بتحطيم غريم له، ثم يتعرف إلى بعض أصدقاء السيدة تاروسينا، وفي مقدمهم ماماييف وكروتسكي، ثم غورودولين، الذي لا يفتأ يدعو إلى ليبرالية، ليست في نهاية الأمر سوى كلام منمق لا يعني شيئًا، ويدور غلوموف وسط هذا العالم، راصداً تصرفاته ولغته وأكاذيبه، في الوقت نفسه الذي يترك ذاته على سجيتها تنساق إلى فخ غرام نصبته له زوجة عمه ماماييف، التي لا تخلو من بعض جمال آفل، فيصبح عشيقها. وإذ يحيط نفسه تماماً بكل هذا العالم؛ يتقرب من السيدة تاروسينا أكثر وأكثر ويتمكن من الحصول على وعد بيد الوارثة الحسناء، ثم إنه في خضم ذلك كله، يروح مدوّناً يومياته، يوماً بيوم، كاتباً فيها كل ما يراه ويفكر فيه، فاضحًا كل هؤلاء الناس، كاشفاً زيفهم، معبّراً عن رأيه الحقيقي فيهم، معتقداً بأن حقيقته هو الآخر سوف تظل مغلقة عليهم، بعد أن اتخذ كل الاحتياطات اللازمة، ولكن بما أن "الشاطر نفسه لا بد أن يقع يومًا" كما يقول المثل الشعبي الروسي، وكما يفيدنا -على أية حال- عنوان المسرحية؛ سينتهي به الأمر هو الآخر إلى أن ينكشف؛ إن عشيقته زوجة ماماييف، إذ يسوؤها ارتباطه بحسنائه الصبية الوارثة، تتمكن من العثور على دفتر يومياته، وهكذا يتاح لها أن تقرأ بعض صفحات هذه اليوميات في حضور الآخرين، كاشفة عنه حجابه ومسقطة قناعه، فيفتضح غلوموف بدوره، وتفتضح خطته الدقيقة التي كان مطلوباً منها أن توصله إلى مكانة ما في المجتمع، ويعلن على الملأ رأيه في أهل هذا المجتمع.
غير أن الخبطة المسرحية تكون هنا في انتظار غلوموف، ذلك أنه، على رغم يومياته الراصدة، وعلى رغم رأيه في الآخرين، لا يبدو أفضل منهم ولا أسوأ، ومن هنا حين يخاطبهم أخيراً بعد افتضاح أمره قائلاً: "ولكم أن تعلموا أيها السادة أنني خلال الفترة التي قضيتها بينكم وفي مجتمعكم؛ كنت شريفاً وصادقاً مع نفسي حين كتبت هذه المذكرات... وإلى جانب هذا عليكم أن تدركوا أن أي انسان شريف ما كان ليعاملكم غير هذه المعاملة، لقد أثرتم في نفسي المرارة، ولعلني أتساءل متعجباً: ما الذي أغضبكم في مذكراتي؟ ما الجديد الذي اكتشفتموه فيها؟ إن كل واحد منكم يتحدث عن الآخر ولكن في غيابه، فإذا حدث وقرأت لأحد منكم ما كتبته عن الآخرين على حدة، لكان صفق لي معجباً..." والحال أن هذا التصريح يكون ذهبي المفعول؛ يكتشف الآخرون أن غلوموف منهم حقًّا وأنه، وفق تعبير كروتسكي "إنسان عملي على رغم هذا... ينبغي طبعاً عقابه، ولكني أعتقد بأنه من الممكن بعد فترة اجتذابه والتعامل معه من جديد"، والحال أن هذه النهاية إنما تعني انضمام غلوموف إلى النادي الاجتماعي، شرعاً وعن حق.
حين كتب ألكسندر أستروفسكي هذه المسرحية كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان قد خبر مجتمعي موسكو ولينينغراد، اللذين كانا صفَّقا كثيراً لأعماله السابقة، إذ إنه كان قد سبق له أن حقق نجاحاً كبيراً بفضل أكثر من 26 مسرحية كتبها، وجلّها يعالج القضايا الاجتماعية، ولسوف يكتب أستروفسكي، بعد مسرحيته هذه نحو 25 مسرحية أخرى، ما جعله واحداً من أنجح وأهم كتاب المسرح الشعبي في روسيا في ذلك الحين، ولا سيما منذ قام بجولة أدبية في العام 1856 في العديد من أنحاء روسيا، ليعود منها بعدد كبير من المواضيع، وهو كان يسعى دائمًا إلى نشر الديموقراطية في المسرح الروسي، لكن المؤسف أنه حين سُلّم مقاليد هذا المسرح في العام 1885 رسميًّا، كما سُلّم إدارة أكاديمية المسرح؛ لم يعش بعد ذلك سوى عام واحد، فلم يتمكن من إحداث أي تغيير جذري يضاهي التغيير الذي أحدثته مسرحياته الاجتماعية في الأذهان.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإخبارية.*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة