"داعش" هو أول حركة دينية متطرفة تحمل اسم "دولة"، فهو ليس مجرد حركة "إصلاحية" كما اعتادت جماعات الإسلام السياسي أن تسمي نفسها.
يثير الانتباه هذا الاهتمام العالمي بما يجري في المنطقة العربية، ويثيره أكثر ذلك الدور الذي تقوم به الدوائر العسكرية والاستخباراتية بمواجهة «داعش» والانتظام في مجابهته على الأرض العربية.
خلال مدة بسيطة لا تتجاوز الأعوام نشأ تنظيم «داعش»، وكان في البداية أقرب إلى الاستهجان، واستخف كثيرون به وبما يطمح إليه، تواطأ معه من تواطأ، وحاربه من حاربه، ووقف على الحياد من وقف.
وبسرعة لا يمكن تخيلها أو فهمها، استطاع هذا التنظيم أن يصبح هيكلاً متكاملاً، بل إن سرعة تشكله فاقت سرعة نمو الدول المتحضرة، وما بين الرؤى السياسية، والمطامح الدينية، واللعب على مشاعر الناس تحوّل إلى داء مستفحل، لم يبدأ علاجه مبكراً، ذلك العلاج الذي كان ينبغي أن يكون اجتماعيَّا واقتصاديَّا وفكريًّا قبل أن يكون عسكريًّا.
ولعلّ المتابع يلحظ ذلك التطور المخيف ابتداء من نهايات القرن العشرين وإلى اليوم، وذلك التجريب الممنهج في تعميق الفكر المتطرف من أفغانستان إلى العراق وسوريا وتونس ومصر، ولا يحتاج الأمر إلى استطراد في سرد الأدلة، فما حدث لم يكن نبتًا شيطانيًّا، ولم يكن مفاجئًا، بل كان مدروسًا ومؤسسًا بما يسمح بالانتشار كالنار في الهشيم.
«داعش» هو أول حركة دينية متطرفة تحمل اسم «دولة»، فهو ليس مجرد حركة «إصلاحية» كما اعتادت جماعات الإسلام السياسي أن تسمي نفسها، وليس حزبًا دينيًّا، بل ينطلق من مفهوم الدولة منذ أول يوم لإعلان وجوده. وسواء أكانت البذرة الأولى لـ «داعش» استخباراتية أم فكرية، فنحن أمام فكرة أخطر ما فيها إطلاق مصطلح الدولة على ذاته، ومن تتبع مسيرة ولادة تنظيم «داعش» ونموه يلاحظ حرص التنظيم على امتلاك الأرض، وعلى وضع القوانين والأنظمة التي يراها، والتي تتطابق إلى حدّ كبير مع أنظمة حركة طالبان في إقصاء الحياة المدنية من المجتمع، وإعادة المجتمعات القهقرى لقرون وزجّها في ظلامية مطبقة.
اليوم وقد رأى الغرب أنه مهدد بتطرف «داعش» رأينا الأحلاف المتضادة ظاهريًّا، فحلف تقوده الولايات المتحدة، وآخر تتزعمه روسيا، والحلفان يزعمان محاربة «داعش»، هذا المخلوق الجنيني زمنيًّا كما يفترض، وكل يوم يبشرنا أحد الحليفين بضربات جوية لـ «داعش»، وبمقتل قائد أو أكثر، والقائد صار قادة، والهجمات كأنها تحولت إلى تشطير لـ «داعش» تتكاثر به ولا تموت، تزيد رقعتها التي تسيطر عليها ولا تضمحل.
للمرة الأولى يضع الشرق والغرب أمامه - ظاهريًّا - هدفًا واحدًا هو «داعش»، فهل عجز هذان الحِلْفان عن عدو جنيني حقًّا؟ وهل يقوم الحِلْفان بمحاربة «داعش» التنظيم أو الدولة الافتراضية؟
يذهب بعض المحللين إلى أن كل ما تمّ من حرب على «داعش» ساهم في تقويتها، وقَرّبَ فكرة إنشاء دولة لها في زمن ما.
وبغض النظر عن التجاذبات السياسية بين أطراف التحالفات، فإن ظهور «داعش» عمل على تدمير البلدان العربية، وساهم في حرق إنجازات امتدت نصف قرن وأكثر من جهد أبناء المنطقة منذ خروج المستعمر الغربي، وتسلم الحكومات الوطنية زمام الأمور، إن المنجز الثقافي والحضاري والاقتصادي في المنطقة تمّ استهدافه، فتدمير البنى التحتية يجري بطريقة ممنهجة، وهجرة الأدمغة والعقول صارت سياسة متبعة، بل إن عمل الدوائر الاستخباراتية ودعايتها بأن هذه الفوضى لن تستثني بلدًا عربيًّا جعل الكثير من الطاقات تستبق الأمور لتهاجر إلى غير رجعة.
ومع كامل الإدانة للهجمات الإرهابية في باريس، وخالص التعاطف مع ضحايا هذه الجرائم البشعة، فإن ما حدث في باريس لا يشكل خطرًا على مجتمعات الغرب بالقدر نفسه الذي يشكله على مجتمعاتنا وأمننا وسلامنا ومستقبل أجيالنا نحن، وإذا كنا نتحالف ونرحب بأي جهد دولي يُبذل للقضاء عليه، فإن مسؤوليتنا تبدو أكبر في هذا السياق؛ إذ نحن المعنيون أولاً.
إن ما يجري في المنطقة سيعيدها عقودًا وقرونًا إلى الوراء، وربما يجعلها خارج السياق التاريخي، وحسبنا ما نراه من مئات الآلاف الذين هجروا من بيوتهم، سواء في العراق أم سورية، وصاروا من سكان المخيمات؛ إذ لا تتوافر لهم أدنى متطلبات الحياة، فكيف بالصحة والتعليم؟ ويكفينا أن نقرأ في تقرير «تجديد الالتزام بوعد التعليم للجميع» المنبثق عن المبادرة العالمية المتعلقة بالأطفال خارج المدرسة التي أعدها معهد اليونسكو للإحصاء أن أكثر من خمسة ملايين طفل عربي خارج التعليم، ويشير التقرير إلى أنه في سورية وحدها ارتفع عدد الأطفال المحرومين من التعليم من 300 ألف في العام 2000 إلى مليوني طفل في العام 2013، ولا شك في أن هذا الرقم زاد كثيرًا في السنتين الماضيتين.
إن هذه الصورة القاتمة تتطلب منا تشكيل حلف عربي يكون أكثر حرصًا على الأرض والمنجز والحضارة، ويعيد تشكيل البنية الفكرية الدينية، ويستبعد كل ما يعزز التطرف، ويضيق دائرة التهميش الاجتماعي التي تساهم في تغذيته.
بعد أن تنتهي الحرب الدائرة سنجد بلداننا العربية - إن لم نتحالف - قد خسرت مقدراتها وقرارها المستقل، وصارت مرهونة للضياع؛ لذلك أرى أن العمل من الداخل أكثر جدوى، وأكثر قدرة على نهوض مجتمعاتنا من كوابيس لا يدرك أحد عواقبها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة