ماذا كسب العرب والمسلمون من هذا الجنون الإرهابي الواسع؟ وماذا جنى المسلمون من ممارسات تنظيم "داعش" وأخواته
ماذا كسب العرب والمسلمون من هذا الجنون الإرهابي الواسع؟ وماذا جنى المسلمون من ممارسات تنظيم «داعش» وأخواته باسم الإسلام والجهاد المزعوم؟ وماذا استفاد المنتمون إلى هذا الفكر التكفيري الذي لا علاقة له بأخلاق وقيم لخّصها رسول الله (ص) كعنوان لرسالته السامية «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وهي رسالة الوسطية والاعتدال والعدل والمحبة والسلام على مبدأ «لا إكراه في الدين».
وأي إنجاز تحقق للدواعش في غزواتهم المتكررة والمنفرة ضد أبناء جلدتهم ودينهم في لبنان (برج البراجنة) والسعودية والعراق وسورية وليبيا والكويت وغيرها؟ وأية مكاسب حققوها من عملياتهم الإرهابية في الغرب وآخرها فرنسا؟
هذه الأسئلة يطرحها كل إنسان مؤمن بتعاليم دينه الحنيف وتعاليم الأديان السماوية بعد مرور سنة على احتلال الموصل في العراق، ومن بعدها التمدد نحو سورية في دير الزور والرقة، بعدما هبط «الخليفة» المزعوم أبو بكر البغدادي وأنصاره بالمظلات وسط علامات استفهام عدة تتناول الأسلوب والتوقيت والتنظيم والتمويل والتسليح والتجنيد.
لا شك في أن الخاسر الأول هو كل من صدق هذه الدعوة واقتنع بأنه ذاهب إلى الجهاد وإحياء الخلافة وتكفير العالم كله، ومعه أكثرية المسلمين، والاستشهاد للوصول إلى الجنة والحور العِين فيها.
فماذا استفاد هؤلاء، بل وماذا استفاد الإسلام من قتل مائة هنا أو ألف هناك، وتفجير القنابل وأحزمة الموت الناسفة وسط المدنيين أو داخل مساجد الله التي يؤمها المؤمنون للصلاة والتعبد والدعاء؟ وأي هدف تحقق من القيام بعمليات دموية إلا النقمة والحقد وتشويه صورة الإسلام؟ وماذا كانت النتائج الناجمة عن تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء وغزوة باريس... وغيرهما، غير الانتقام بشن مزيد من الغارات وإرسال مزيد من القوات من الغرب والشرق لإحكام «كماشة» الطامعين برقبة العرب؟
كم من الشباب قتلوا باسم الجهاد، ومن بينهم مئات الانتحاريين؟ وكم من ملايين المدنيين هُجروا؟ وكم من الرجال قتلوا؟ وكم من النساء ترملن؟ وكم من الأطفال تيتموا؟ وما هو حجم الخسائر الناجمة عن هذا الجنون والدمار الهائل الذي لحق بالعرب؟ وكم من الثروات قد أهدرت؟
من يريد أن يقيم دولة إسلامية فاضلة عليه أن يطبق أصول الدين وقيمه الإنسانية بلا إكراه ولا غيّ ولا تطرف، وعليه أن يحقن الدماء ويحرم القتل لأن «من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»، كما هدانا الله عز وجل. وعلى من يريد إقامة الدولة أن يبني ولا يهدم، ويعدل ولا يظلم، ويطبق الشريعة السمحة ولا يرتكب الممارسات المشبوهة من سبي واغتصاب ورق واستعباد وذبح وإحراق أسرى.
ولم أجد تعبيرًا بليغًا على هذا الواقع إلا ما جاء على لسان العالم الجليل أحمد ديدات: «أشرس أعداء الإسلام هو مسلم جاهل يتعصب لجهله ويشوه بأفعاله صورة الإسلام الحقيقي، ويجعل العالم يظن أن هذا هو الإسلام».
لكل هذه الأسباب، لا يختلف اثنان على أن الخاسر الأكبر في هذه «الغزوات» هو من انتمى إلى تنظيم «داعش». فقد قتل الآلاف منهم واعتقل الآلاف وأعدم المئات بيد رفاقهم لأسباب واهية وهُدرت البلايين من ثروات الأمة على القتل والمعارك والظهور الإعلامي والعمليات الانتحارية، بدل إنفاقها على البناء والتعليم ومساعدة المحتاجين ووقف تهجير مئات الآلاف من السكان الأصليين بعد حرمان طويل.
أما الخاسرون الكبار، فهم أبناء أمتنا وديننا، بدءًا من تشويه صورة المسلمين في العالم وتهديد أمنهم وحياتهم وسبل عيشهم، وإذكاء نار الأحقاد ضد الإسلام والمسلمين، وتحويل مبادئه السمحة التي تدعو إلى السلام والمودة والرحمة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة واللا إكراه في الدين... إلى دين الذبح بالسكاكين وسبي النساء وقتل الأبرياء وتهديد أمن العالم وتفجير التجمعات السكنية للمدنيين، مع أن أي عاقل ومؤمن يدرك أن من يريد كسب التأييد لقضيته يعمل على رسم صورة مشرقة ومشرفة لها كرمز للعدالة والتسامح والتعايش وتقديم المثل والقدوة الحسنة للإنسان المسلم السوي الذي يمد يده إلى أخيه الإنسان وينتصر لقضايا الحق والإنسانية من دون تفريق ديني أو مذهبي أو عرقي.
والخاسر الآخر بعد الإسلام والمسلمين هو كل إنسان عربي يسعى إلى تأمين رزقه والعيش بسلام وأمان والمطالبة بحقوقه، فجاء هذا التنظيم المرعب لينسف كل ذلك، ويشوه صورة الحراك الشعبي ويصمه بالإرهاب والتطرف، وكأنه جاء لهدف معين، وهو أسر الشعوب في قمقم التخلف والقمع وحرمانها من النور والأمل والحق.
ويأتي على رأس الخاسرين العرب أبناء الشعب الفلسطيني؛ لأن إسرائيل استغلت هذا الترويج المغرض ضد الإسلام والعرب لما يسمى «الإرهاب الإسلامي» لتضرب عصفورين بحجر واحد، وهما: الإمعان في قمع الفلسطينيين وضمهم إلى لائحة الإرهاب لتحرمهم من حقوقهم وهويتهم الوطنية، ومن ثم تسريع خطوات الاستعمار الاستيطاني وضم مزيد من الأراضي العربية وتهويد القدس الشريف وتهديد المسجد الأقصى المبارك تمهيدًا لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، فيما يعيش العرب في غيبوبة ولا مبالاة أو في حال ضياع وتشرد وانشغال بهموم حروبهم وتشرذمهم وغزوات المتطرفين.
وأبرز الخاسرين أيضًا والخائفين على حاضرهم ومستقبلهم هم أبناء الجاليات العربية والإسلامية في العالم، وفي الغرب بالذات، الذين يقدر عددهم بأكثر من عشرين مليونًا، وأضيف إليهم أخيرًا مئات الآلاف من اللاجئين السوريين وغيرهم، فقد كانوا يعيشون بأمان ويعاملون بكل احترام ومساواة مع المواطنين. كما تحول التعاطف مع اللاجئين إلى نقمة ورفض ومطالبة بإغلاق الحدود وبإلقائهم في البحر الذي جاءوا منه، ووصل الحقد إلى درجة وصفهم من جانب أحد المرشحين الأميركيين للانتخابات بـ «الكلاب المسعورة».
أما الجاليات التي تقيم في الغرب منذ عقود طويلة، فقد بات مصيرها مهددًا بعدما طغت أصوات التطرف والتعصب والحقد بدعم من القوى الصهيونية التي أعادت ترديد نغمة الإسلاموفوبيا التي خمدت قليلاً بعد فورانها عقب زلزال 11 أيلول (سبتمبر) 2001. بعد ذلك، بدأت مسيرة العنف على يد «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن، وأدت إلى تعميق الهوة وزيادة الأخطار، وأساءت إلى قضية فلسطين وشوهت صورة الإسلام، وأوصلت بالتالي إلى احتلال بلد إسلامي (أفغانستان) وبلد عربي (العراق) لتكمل المسيرة «قواعد» نبتت كالفطريات في الدول العربية والإسلامية من «بوكو حرام» إلى «داعش» وأخواتها.
ومن الإنصاف القول إن كل هذه الممارسات المسيئة جاءت بعد سنوات طويلة من الجهود الجبارة لأبناء الجاليات لإسماع صوتهم وإثبات حقوقهم، وأثمرت عن إيجابيات كثيرة وتسامح كبير من جانب السلطات الغربية والأحزاب والمواطنين، فقد وصل المئات إلى مناصب مهمة في الحكومات والبرلمانات والمجالس المحلية، كما سمح ببناء آلاف المساجد ونال كل مواطن الحق في حرية العبادة والعيش الكريم والحصول على الجنسية والتأمينات الاجتماعية والصحية والتعليمية والتسهيلات للحصول على منازل مجانية، وهي امتيازات لم يحصل أي مهاجر على واحد في المائة منها في بلاده، كما أن التعامل معه يجري وفق القوانين المرعية من دون أن يتجرأ أحد على سؤاله عن دينه وأصله ومعتقداته، على رغم أن بعض الأئمة وقيادات محلية دعوا إلى التمرد على القوانين ورفض الالتزام بها وتكفير المجتمعات التي فتحت لهم صدورها وعاملتهم باحترام ومساواة واحترام.
وهنا تطرح أسئلة محورية، وهي ماذا بعد؟ وماذا كانت حصيلة كل ما جرى؟ وهل سنبلى باحتلال دول أخرى هي الآن شبه محتلة؟ أما أهم سؤال مطروح باستنكار واستغراب، فهو أين الجهاد في فلسطين؟ وأين الذود عن حياض القدس الشريف؟ وأين الهبة للدفاع عن المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله بوصفه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلماذا ترك هؤلاء ساحات الجهاد الحقيقي المقدس وتوجهوا إلى الساحات الخطأ والأعمال التي أضرت بالعرب والمسلمين؟
جردة الحساب هذه تظهر بكل وضوح من هم الخاسرون نتيجة هذه الظاهرة الهجينة، كما تحدد بكل موضوعية وبلا أدنى شك من ربح وحقق مكاسب في شتى الصعد، ومن استغل ليفتح شرخًا هائلًا بين العرب والمسلمين والشعوب الأخرى وتشويه صورة الإسلام، وأول هؤلاء إسرائيل التي تعيش في أسعد حالاتها؛ لأنها ضمنت مضاعفة قوتها وتعزيز علاقاتها والتنكيل بالفلسطينيين بعد الاستفراد بهم من دون أن يأبه لهم أحد في العالم.
والمكاسب الأخرى التي حققتها إسرائيل والدول الطامعة في ثروات العرب والمتكالبة على الهيمنة لتقاسم مناطق النفوذ، تمثلت في تحطيم قدرات العرب وهدر ثرواتهم واستنزاف مدخراتهم وإجبارهم على الرضوخ ونسيان القضية الفلسطينية والتلهي بحروبهم العبثية وتدمير مقومات أوطانهم تمهيدًا لتقسيمها وتفتيتها لإنشاء دويلات هزيلة تجعل لإسرائيل اليد العليا في شؤون المنطقة.
هذه الصورة القاتمة للأوضاع في ديار العرب غير العامرة تنذر بمزيد من النزيف البشري والمادي وترسيخ التشرذم الذي لا تقوم للعرب بعده قائمة، لكل هذا، لا بد من دق ناقوس الخطر والدعوة إلى التنبه والحذر والنهوض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وفتح أبواب المصارحة والحوار البناء بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة وإعادة اللحمة بين المسلمين والمسيحيين والأقليات بلا استثناء ولا تمييز ولا إقصاء لأي طرف، ليشعر الجميع بالأمن بعدما عاشوا منذ أكثر من 1400 سنة التسامح والمشاركة.
ولابد أيضاً من إغلاق أبواب ونوافذ الفتنة بين السنة والشيعة أمام كل من تسول له نفسه إشعال نارها التي ستقضي على ما بقي من كيانات وشعوب وتأكل الأخضر واليابس، من دون أن ننسى تجديد الحوار مع الغرب ومخاطبة الرأي العام العالمي بالحكمة والتسامح لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي قدمتها التنظيمات المتطرفة والممارسات الخاطئة، إضافة إلى السموم التي تبثها الدعايات الصهيونية والأحقاد العنصرية.
إنه طريق طويل وصعب في ظروف خطيرة وأوقات عصيبة، لكن المبادرة مطلوبة، والجهود الخيرة واجبة والحكمة ضرورية. وأول غيث الحلول حوار ومصارحة.
ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة