هيبة القيصر أهم من صواريخ "الجيش الأحمر" وأسعار الغاز. وفلاديمير بوتين مشروع هيبة قبل أن يكون أي مشروع آخر.
الطيار التركي الذي أسقط المقاتلة الروسية بصاروخ أميركي أصاب أيضًا رجلين، جرح هيبة القيصر، واستدرج السلطان إلى مبارزة لا يمكن كسبها على الحلبة السورية الملتهبة.
هيبة القيصر أهم من صواريخ «الجيش الأحمر» وأسعار الغاز، وفلاديمير بوتين مشروع هيبة قبل أن يكون أي مشروع آخر، أوفدته المؤسسة العسكرية والأمنية إلى الكرملين حاملًا مشروع ثأر من الذين رقصوا فوق الركام السوفياتي، تعبت من إذلال روسيا وأسلحتها من العراق إلى يوغوسلافيا ووصولًا إلى ليبيا؛ لهذا يتصرف بوتين كالملاكم، كلما تلقى ضربة يرد بأقوى منها، يدافع عن صورته وصورة بلاده.
صورة السلطان أهم من عائدات السياحة وشركات الإنشاءات، حمل هو الآخر مشروع ثأر من تركيا المهمشة أو التابعة، غيَّر رجب طيب أردوغان مسار بلاده، ادخلها نادي العشرين وأعطى لصوتها نبرة أعلى في مخاطبة أهل الإقليم والعالم، شرعيته الشعبية كاملة تمامًا كشرعية بوتين، وكلاهما يكره المعارضة ويعتبرها خائنة، عامل أردوغان رفيقه اللدود فتح الله غولن كما عامل بوتين البارونات الذين حاولوا حجز مقاعد إلزامية في عهده، وكلاهما يكره الصحافة الحرة ويبرع في ترويضها.
ما أصعب هذه المبارزة، هذا حفيد إيفان الرهيب وذاك حفيد محمد الفاتح، هذا وريث بطرس الأكبر، وذاك وريث سليمان القانوني، خرج الأول من عباءة يوري أندروبوف وخرج الثاني من عباءة نجم الدين أربكان، صُنع الأول في مختبرات الـ «كي جي بي» صُنع الثاني في مدرسة في إسطنبول، أنجبت الكثير من الدعاة، الأول يحب الجودو وإلقاء خصمه أرضًا، والثاني يحب كرة القدم وهزّ شباك الآخرين، الأول جاسوس وأستاذ في إخفاء مشاعره ونواياه، والثاني خطيب أستاذ في فضح مشاعره.
مبارزة بين بلدين جريحين لا يستيقظ التاريخ إلا ليسكب ملحًا في جروحهما، وبين الإمبراطوريتين السابقتين خمسة قرون من المواجهات واثنتا عشر حربًا وأهرامات من الجثث، ملاكمان عنيدان ومجروحان على خط التماس التاريخي بين روسيا الأرثوذكسية وتركيا العثمانية.
يقلّب الملاكم الأول صفحات التاريخ ويرجع ناقمًا، تآمر العالم على الإمبراطورية الروسية، قلَّم أطرافها وقطَّع الأوصال، انتهى القرن الماضي بتفجير الخريطة السوفياتية، فرّت منها دول وشعوب، كان العقاب مريرًا.
يقلّب الملاكم الثاني التاريخ ويرجع غاضبًا، كانت الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف، تواطأ الكثيرون ضدها، كانت القرم في عهدة إسطنبول، وكان البحر الأسود بحيرة عثمانية، وذات يوم قدّمت كاترين العظيمة جواهرها لاسترضاء السلطان، لكن العالم تواطأ ضد الدولة العثمانية، وأكثر الطعنات غدرًا جاءتها من روسيا، في بدايات القرن الماضي سمَّت تركيا «الرجل المريض». وبعد الحرب العالمية الأولى قُدِّمت كوليمة لإشباع شراهة المنتصرين.
يلتحق المستشارون بزوجاتهم ويتركون الرئيس وحيدًا مع الليل، يتمشّى رجب طيب أردوغان في القصر الشاسع، هذا العالم ظالم، لماذا يحقّ لروسيا البعيدة أن تتدخّل في سورية ولا يحقّ لتركيا المجاورة أن تتدخّل فيها؟ ولماذا يحقّ للجيش الروسي أن يتدخّل في جورجيا وأوسيتيا وأوكرانيا ولا يحق لتركيا أن تتدخّل في حلب؟ ولماذا يحقّ لبوتين أن يدافع عن الأقليات الروسية والناطقين بلغته ولا يحقّ لأردوغان أن يدافع عن التركمان؟ لماذا يحقّ لموسكو إنقاذ النظام السوري ولا يحقّ لأنقرة دعم المعارضين له؟
بعض المعارك يأتي في توقيت خاطئ، ليت الطيار التركي أخطأ الهدف، كان أعفاه من هذا الامتحان. هذه المبارزة مختلفة عن المبارزة مع رئيس سوريا ورئيس وزراء إسرائيل، إنها محفوفة بالعواقب الوخيمة، حلف الناتو غير راغب في مواجهة مع «بوتين الرهيب» وسيد البيت الأبيض غسل يديه باكرًا من سوريا وأهوالها.
ليت الطيار أخطأ الهدف، كان أعفاه من القول إنه حزين ولا يريد الطلاق بين أنقرة وموسكو، وإنه يتمنى ألاّ يتكرّر ما حدث قبل يومين، حذّر الملاكم الروسي من اللعب بالنار، ثم اكتشف أن تصريحه صبّ الزيت على نار غضب القيصر الذي أمر طائراته بتدمير «المنطقة الآمنة» التي كان أردوغان يحلم بإنشائها.
تعامل بوتين مع إسقاط الطائرة الروسية كأنه فرصة، أقرّ إجراءات عقابية ضد تركيا، وأرسل زهرة ترسانته الصاروخية لترابط في الساحل السوري، من يضمن ألاّ يردّ القيصر على «الطعنة في الظهر»؟ وماذا لو أسقطت الصواريخ الروسية غدًا طائرة تركية في منطقة الحدود مع سورية أو قربها؟ وماذا سيقول أردوغان عندها للأتراك الذين انتخبوه لأسباب كثيرة بينها أنه عالي النبرة ويتجرّأ على الكبار؟
في أسوأ مناخ بين أنقرة وموسكو تعقد قمة المناخ اليوم في باريس، الملاكمان حاضران، سيسترق كل منهما النظر إلى الآخر، كلاهما يلعب بالنار، لن يستقبل القيصر السلطان إلا إذا تخطى مشاعر الندم إلى ذلّ الاعتذار، صعّد الفريقان عمليات الضرب تحت الحزام، للقّاء في باريس ثمن لا بد أن يدفعه أردوغان، إذا تعذّر اللقاء ستتضاعف حظوظ بشار الأسد في تمديد إقامته، لا يملك أردوغان حليفًا راغبًا في زجر سيد الكرملين، باراك أوباما بدأ بجمع أوراقه، يخطّط لكتابة مذكراته وترؤس ناد لكرة السلة، سيقرأ الرئيس التركي في عيون أصدقائه نوعًا من العتب، سيقرأ سؤالًا صعبًا «لماذا طعنت القيصر؟».
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الإخبارية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة