عن ياسين رفاعية: الراحل والرحلة
منذ بداياته اختط رفاعية لنفسه أسلوبًا في كتابة القصة القصيرة، وليس من المبالغة القول إن رفاعية سبق زمن "القصة القصيرة جدًّا" بعدة عقود
عرفت ياسين رفاعية قبل أن أتعرف عليه، وضعتني روايته "مصرع ألماس" على تماس مباشر مع هزائم الرجال ومصائر النساء بخلطة من الواقعية والأسطورية، قدم رفاعية عالمًا خاصًا تتضافر فيه وتتنافر نوازع الجنس والجريمة، الإثم والمغفرة، المنح والنكران، وكأنه بذلك يريد أن يقلّب مواجع الناس العاديين، لكي يضعهم أمام أنفسهم كم خلقوا، لا تستر عريهم إلا هشاشتهم.
بهذه الصورة المسبقة عن الكتاب، التقيت بالمؤلف في يومي الأول بإحدى محطات حياتي المهنية، وجدتني مجاورًا لياسين رفاعية، صاحب القامة المديدة، والدماثة الممتدة، والأناقة المسترسلة بسخاء، استطاع ياسين، بصفاته هذه وغيرها، أن يبدد منذ اللحظات الأولى وحشة المكان، وأن يقدم الزمالة المهنية بأبهى صورها، فامتدت سحابة عقد من الزمان، عززتها جيرة في محل الإقامة.
منذ بداياته اختط ياسين رفاعية لنفسه أسلوبًا خاصًا في كتابة القصة القصيرة، وليس من المبالغة القول إن رفاعية سبق زمن "القصة القصيرة جدًّا" بعدة عقود، ففي مجموعته "العصافير" الصادرة عام 1974، قدم صاحب "الحزن في كل مكان" هذا النوع الأدبي مكتملًا في الشكل والمضمون.
شكلت بعض قصص المجموعة، والتي لم تتجاوز الأسطر الخمسة، فتحًا في عالم الكتابة الأدبية قوبل باحتفاء نقدي وأدبي، لكن المسألة لم تكن تتعلق فقط بالشكل على أهميته، فرفاعية جذّر تجاوزاته الشكلية في المضمون، إذ تخلى عن الحدث كمعادل ضروري للسرد، ليعطي مساحة أكبر للفكرة والفانتازيا، وقبل ذلك للغة.
وهنا بالضبط تكمن هوية ياسين رفاعية الأدبية، فهو روائي وقاص يتدثر في إهاب شاعر، تبدو لغته خارجة للتو من أتون القصيدة إلى مرايا العالم السردي، بقصصه ورواياته، يتبدى ذلك على سبيل المثال في مجموعتيه الشعريتين "أحبك وبالعكس أحبك" و"أنت الحبيبة وأنا العاشق"، فقد أطاح فيهما بكل متعلقات اللغة من محسنات، أبقاها طازجة، مقتضبة وغزيرة في آن، لماحة وموحية على الدوام.. وبهذه اللغة نفسها، كتب أعماله القصصية والروائية، هنا تصبح اللغة هي هويته، ويصبح منجزه الكتابي جزءًا من سيرته الإنسانية، وهي سيرة غنية كثيرة المحطات، لم تحل دون اكتنازها ظروف الغربة. فقد سألته مرة: ألم تحرمك غربة المكان واللغة في لندن من مصادر عينية لكتاباتك، على النحو الذي قرأناه في الأعمال السابق، لا أذكر إجابته بالضبط، لكنه في اليوم التالي وقبل صباح الخير، دفع إليّ بثلاث صفحات كتبها بخطه الأنيق والمنمنم، يحكي فيها قصة جميلة عن فتاة جلست قبالته في القطار، وهي تبك، كانت مثله غريبة في المكان وفي اللغة، ولكنه استشف من دموعها حكايتها الموجعة.
لذلك لم يفاجئني حينما قال في حوار نشرته له قبل سنوات "أكتب بإخلاص وبقوة ترضيني عن نفسي، ولطالما قرأت رواياتي قراءة الناقد عدة مرات قبل نشرها وكثيرًا ما حذفت عبارات، وكثيرًا ما أتلفت رواية وجدتها غير متكاملة، ولكن غالبية أعمالي أُطعمها بشيء من ذاتي وتجاربي الشخصية، وإن تابعتها كلها فستجد سيرة ذاتية لياسين رفاعية خلال 50 سنة من العمر".
لم يكن هذا الرجل المبدع، الذي تنطوي حياته الشخصية على مآسي، شكّاء بطبعه، على الرغم من الرحيل الفجائعي لزوجته الشاعرة أمل جراح، ومن ثم ابنته.
فكما كان حكّاءً فياضًا عن الناس والأحداث، كان كذلك شاعرًا بوَّاحًا بالمعنى الإنساني للفقد، وكأنه بالقصائد التي كتبها لزوجته الراحلة، كأنما يواصل سيرة من سبقوه من كبار العاشقين: قصائد لوي أراغون المضطرمة لزوجته إلزا، وسوناتات بابلو نيرودا المقطّرة لزوجته ماتيلدا، ومرثية نزار قباني لزوجته بلقيس.
في شهر فبراير/شباط الماضي، كان لقائي مع ياسين رفاعية بلا موعد، دخل على غير توقع إلى المقهى البيروتي، بقامته المديدة ودماثته الممتدة وأناقته السخية، ترافقه عصا يضع عليه ثقل سنواته المكتنزة. سألته يومها عن صحته. لم يكن شكّاء، قال إنه على خير ما يرام، ولم يقل إنه على موعد قريب مع الموت.
بطاقة
ـ ياسين رفاعية، أديب سوري، ولد عام 1934، ورحل قبل يومين في بيروت، وعمل في الصحافة في عدد من المؤسسات اللبنانية والعربية في بيروت ولندن.
ـ له العديد من الأعمال القصصية والروائية والشعرية منها: "الحزن في كل مكان" 1960 قصص "جراح"1961 شعر "العالم يغرق" 1977 قصص "الممر" 1978 رواية "العصافير1979 "العصافير تبحث عن وطن" 1979 قصص للأطفال. "الرجال الخطرون" 1979 قصص، "الورود الصغيرة" 1980 قصص للأطفال "نهر حنان" 1983 قصص "لغة الحب"1983 شعر "وردة الأفق"" 1985 رواية. "دماء بالألوان" 1988 رواية. "رفاق سبقوا " 1989. "الحصاة" 1990 قصص. "رأس بيروت" 1992 رواية. "امرأة غامضة" 1993 رواية. "حب شديد اللهجة" 1994 شعر. "كل لقاء بك وداع" 1994 شعر. "أُحبك وبالعكس أُحبك" 1994 شعر. "أنت الحبيبة وأنا العاشق" 1996 شعر. "أسرار النرجس" 1998 رواية. كما ترجمت روايته "مصرع الماس" إلى الإنجليزية.