نتائجها تمس كبرياء الأمة .. وتحولت من مجرد لعبة إلى ظاهرة سياسية واجتماعية عالمية
نتائجها تمس كبرياء الأمة .. وتحولت من مجرد لعبة إلى ظاهرة سياسية واجتماعية عالمية
من مظاهر كأس الأمم الأوروبية تلويح جمهور المنتخب الفرنسى بعلم بلادها فى المباريات التى خاضها الفريق وهو سلوك يعبر عن الانتماء .. دون إنكار هذا الإنتماء على جماهير المنتخبات الأخرى التى عبرت عنه بوسائل وصور مختلفة ..ولكن فرنسا أو الدول ال 24 التى شاركت فى كأس الأمم الأوروبية لم تختصر أوطانها فى فرقها .. لكن شعوبها تسجل الانتماء فى ساحة الرياضة وكرة القدم .. وهذه الشعوب تعبر عن الانتماء فى شتى مجالات الحياة . والتعبيريكون بالعمل ، والقانون ، وإحترام النظام . إلا أن الرياضة هى ساحة إعلاء الكبرياء ، فى صراع حضارى كامل ، وتلك الساحة ليس لها مثيل ، وهى أصدق الساحات وأعدلها ، فالنتيجة مثل الحكم ، نهائية ، ليس فيها نقض ، ولا دفاع ، ولامناقشات ، ولاتعليق . فالفائز يفوز والأول هو الأول .. وكلاهما هو الأفضل بمعايير القدرة البشرية والمنافسة ..
وقد أسقطت كرة القدم فى السنوات العشرين الأخيرة كل الحواجز بين البشر، ففى منتخب ألمانيا لاعبون من أصول عربية وتركية وبولندية ، وفى منتخب فرنسا الحالى خمسة أو ستة لاعبين من أصحاب البشرة السمراء ، والطريف أنه عندما فازت فرنسا بكأس العالم ودارت عدسات المصورين لتسجيل لحظة من أعظم لحظات الشارع الفرنسى قال السياسى اليمينى المتطرف جان مارى لوبان تعليقا على صورة جمعت بين لاعبى الفريق البطل والرئيس جاك شيراك": أنه لأمر لطيف أن أرى فرنسيا فى الصورة " !
وكانت تلك أيضا إشارة إلى أن معظم لاعبى الفريق الفرنسى من أصول غير فرنسية !
علم ألمانيا فى 2006
عقب فوز ألمانيا على البرتغال فى كأس العالم عام 2006 وحصول الفريق الألمانى على المركز الثالث ، احتشد آلاف الألمان وأخذوا يهتفون : " دويتشلاند دويتشلاند " (ألمانيا ألمانيا ) وهو هتاف كان يرجف العالم فى مطلع الثلاثينات مع بدايات الحزب النازى الذى أسسه أودولف هتلر لكن نفس العالم تابع هذا الهتاف بمزيج من الانبهار والإعجاب ؟
هل كان المركز الثالث سببا لتلك السعادة الغامرة التى أصابت الشعب الألمانى ؟
إن ظاهرة السلوك الألمانى العام فى مونديال 2006 من أهم الظواهر التى شدت انتباه عشرات الصحفيين والكتاب الأجانب الذين تابعوا كأس العالم من قلب الحدث فقد أرادت ألمانيا من تنظيمها للبطولة أن تبلغ العالم رسالة، تقول أنها نفضت عنها أخيرا رماد الحرب العالمية الثانية ، نفضت عنها ما أشيع عن شعبها بأنه شعب لايعرف الابتسامة ولايعترف بروح الدعابة ولايرغب فى أن يعرفها ، ويكره الغرباء ، ولايحب أن يستقبلهم ..
كانت ألمانيا سعيدة بماحققته فى هذه البطولة من نجاح تنظيمى هائل إتسم بالدقة والانضباط وهما صلب الشخصية الألمانية ، وسعيدة بإحتضان مواطنها للعلم ، حتى قيل أنها المرة الأولى التى يرفع فيها الشعب الألمانى علم بلاده رمز العزة والكرامة الوطنية ، بمثل هذا الفخر والحب والسعادة
فمنذ 60 عاما لم يعرف الألمان مثل تلك الصيحة الواحدة والهتاف الواحد لكن فى هذا المونديال تغيرت ألمانيا وتغير الألمان وتغيرت نظرة العالم لهذا الشعب عادت إليهم الثقة فى النفس وعادت ثقة العالم فى الألمان وقد استرد الشعب الألمانى الكثير من الكبرياء والقدرة على التعبير عن هذا الكبرياء وتعلم الألمان فى هذا المونديال كيف يستقبلون الشعوب الأخرى وكيف يبتسمون فى الشارع ، وكيف لايخجلون من دموعهم ؟
كبرياء وفرحة الشعوب
الإعلام فى بلادنا هو صاحب تعبير "الشعب لا يفرح سوى بكرة القدم" وذلك وفقا لتفسير خروج ملايين إلى الشوارع والميادين احتفالا بفوز فريق لكرة القدم بمباراة وهذا تفسير غير دقيق يعكس نظرة سطحية لكرة القدم، بينما اللعبة تستحق دراسة أعمق حتى نفهم لماذا تنفجر حالة الانتماء عند الشعوب فى كرة القدم وقبل ذلك علينا أن نسأل : هل ينابيع الإنتماء تنفجر فقط عند شعوب العالم الثالث كلما كانت هناك مباراة مهمة أم أن تلك الحالة تظهر فى شعوب أخرى لاتعانى من الفقر والحرمان والظلم وغياب العدالة والحرية والديموقراطية؟
شعوب العالم كلها تخرج وتحتفل فى مظاهرات، بعد الفوز ببطولة أو فى مباراة كبرى أو عند التأهل لنهائيات كأس العالم فعندما فازت فرنسا بكأس العالم عام 1998 خرج ملايين الفرنسيين إلى الشانزليزية للاحتفال، وشاركهم الرئيس جاك شيراك وفى مونديال كوريا واليابان كانت صورة الملايين فى الشوارع من ملامح البطولة فهل يعانى الشعبان الكورى واليابانى من الفقر فيعوض ماينقصه بكرة القدم ويمسك بشماعة الفوز فى مباراة كى يثبت أنه شعب متحضر ومتفوق ومتميز ؟ هذا بصورة أو بأخرى تفعله كرة القدم فى كل الشعوب وكل الدول ،
وهى تحتفى وتحتفل بانتصارات فرقها ، وتفعل ذلك ترويحا، ونزهة، وفى الوقت نفسه تمارس الانتماء فى كل لحظة ، تمارسه فى السياسة ، وفى العمل وبالعلم ، وبالاهتمام ، وفى الاقتصاد والشئون العامة ..
خنق الديك الفرنسى ..
مازلت أذكر المشهد الغريب فى مونديال 2002 ، وكان لرجل يقف بجلبابه السنغالى أمام عدسات المصورين وهو يمسك بديك يرمز للمنتخب الفرنسى من عنقه مداعبا أو موحيا بأنه " يخنقه " بعد فوز منتخب بلاده الإفريقى على فرنسا حاملة اللقب فهذه الابتسامة التى غلف بها السنغالى وجهه فى اللحظة التى يتوقف فيها الزمن لجزء من الثانية لتسجله الكاميرا لم يخف بها ما فعلته وصنعته كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى فى الشعوب .. فالانتماء لفريق تعويضا عن الانتماء إلى حزب والانتصار فى مباراة قد يكون فرصة لأبداء الرأى فى الوضع الاقتصادى بصرخة ضد حكم أو هتاف غير لائق ضد فريق باعتبار أن ساحة الملعب تسمح بالغضب والانفلات . وقد يكون الهدف انتصارا حضاريا أو هزيمة للشيطان الأكبر أمريكا عند شعوب دول معينة . ولعل ذلك ما يفسر تصريحات أدلى بها لاعبو السنغال وجماهيرهم بعد الفوز على فرنسا فى افتتاح كأس العالم ولخصه مدرب " اسود التيرانجا " فقال : " إن مباراتنا مع فرنسا كانت مواجهة بين البروليتاريا وبين النبلاء !"
لقد اتاحت ساحة مغطاة بعشب أخضر جميل تحيط بها مدرجات مزدحمة الفرصة لكى يهتف فيها الآلاف من الناس لفريق أو ضد فريق ويصرخون، ويفرحون ، ويتألمون ، ويهاجمون مندوب العدالة - الحكم -الذى كان يرتدى زيا أسود ثم تعددت ألوانه . وهذا الصراخ والهتاف والانفعال يعود بالبشرية إلى الوراء آلاف السنين . إلى عصر حلبات المصارعة الإغريقية التى كان يتبارز فيها مصارعان بالسيف والدرع أمام القيصر ، وتنتهى المباراة بفوز أحدهما ، ومقتل الآخر !
إن كرة القدم باتت فى حياة الشعوب بحجم الكرة الأرضية ونتائجها تمس كبرياء الأمة وتحولت من مجرد لعبة إلى ظاهرة سياسية واجتماعية عالمية .
ومع تعاظم أهمية كرة القدم ودورها وتأثيرها وسحرها على الشعوب أصبحت ورقة من أوراق رجال السياسة التى يلعبون بها للوصول إلى الحكم أو تعزيزه أو باعتبارها وسيلة من الوسائل التى تقرب خطوط الاتصال مع الشعوب التى هى الجماهير !
ويقول الكاتب الأمريكى سيون كوبر فى نيويورك تايمز) نشر المقال فى جريدة الشرق التى تصدر فى لندن قبل سنوات ) : : " كرة القدم ظاهرة .. لها مدلولها السياسى وهى رمز للفوضى ولحكم الأقلية وهى تؤدى الى اسقاط سياسيين وانتخاب رؤساء وتحدد الطريقة التى يفكر بها الناس تجاه بلادهم " .
فى عام 1986 اشترى الملياردير الأيطالى سيلفيو بيرلسكونى نادى أيه سى ميلان وأسس بيرلسكونى حزبه السياسى " فورزا ايطاليا " وهو شعار كروى يعنى إلى الأمام ياايطاليا واطلق على مرشحى الحزب اسم الزرق وهو نفس مايطلق على لاعبى المنتخب الإيطالى وفى البرازيل يرتدى السياسيون فانلات فرقهم فى حملاتهم الانتخابية فكرة القدم هى التى جعلت للبرازيل اسما عالميا مدويا .
وفى الارجنتين وخلال الأزمة التى شهدت ثورة الطبقة المتوسطة وانهيار العملة اندلعت المظاهرات وخلالها ارتدى المتظاهرون فانلات المنتخب الأرجنتينى التى كتبوا عليها " باستا " أى يكفى . وأعظم ظواهر المجد الأرجنتينى وهى كرة القدم استخدمت لأهانة ا لطبقة الحاكمة
ولم يختلف الأمر فى ألمانيا ففى عام 1941 خسر المنتخب أمام سويسرا 1\2 فى مباراة لكرة القدم أقيمت بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد هتلر فأمر جوبلز وزير اعلامه بعدم اقامة مباريات رياضية عندما تكون النتيجة مشكوكا فيها وكان ذلك أكبر دليل على أن هتلر لايفقه شيئا فى كرةالقدم.
لعبة السياسة فى كرة القدم ..
لعبة كرة القدم أشبه شيء بلعبة السياسة، فما من شيء يتقاطع فيه العرق والقومية والمصالح والآيديولوجية مثل لعبة كرة القدم والسياسة. فمنذ أن فرضت كرة القدم نفسها فى العقود الأولى من القرن الماضى كالرياضة الشعبية الأولى فى غالبية دول العالم، استخدمها الكثير من السياسيين وقد شاعت مقولة أن "كرة القدم مخدر الشعوب"فى أمريكا اللاتينية فى ستينات وسبعينات القرن الماضى وفى أوساط مفكرى وناشطى اليسار.
فى الستينات والسبعينات من القرن العشرين وجدت التيارات والحركات القومية الانفصالية الكاتالانية والباسكية (اقليم الباسك الذى يسعى للانفصال عن اسبانيا) فى رياضة كرة القدم عاملا حافزا لتنمية طموحاتها السياسية، وحافظت عليه بعد زوال النظام الديكتاتورى وتطبيع الديمقراطية نتيجة لموافقة الشعب الإسبانى على دستور عام 1978. وهكذا تلاشت نزعة "الوطنية" التى رافقت منتخب اسبانيا أثناء النظام الديكتاتورى وبدأت رياضة كرة القدم تعيش مرحلة جديدة من التشدد الإقليمي. وهكذا تحول كل من فريقى برشلونة واتليتيكو دى بيلباو إلى رمزين إقليميين قوميين، وحافظ فريق نادى ريال مدريد على نزعته اليمينية التى تميز بها منذ تأسيسه فى عام 1902 ..
وبرشلونة هذا النادى الكاتالونى أسسه سويسرى عام 1899 ومعروف ويعترف الجميع، مشجعين أو غير مشجعين، أنه أكثر من ناد . وتتحول مباريات الفريقين إلى معركة طاحنة داخل وخارج الملعب. ويعتبر معظم الإسبان أن العلاقة قائمة وحاضرة بين الأندية والسياسة، كما ويعتبرون نادى ريال مدريد محسوبا على الأحزاب المحافظة واليمينية، ونادى برشلونة محسوبا على التيارات الكاتالانية ذات النزعات القومية الانفصالية، ونادى أتليتيكو دى بيلباو محسوبا على الحزب القومى الباسكى الداعى إلى استقلال إقليم الباسك وانفصاله عن إسبانيا ..!
إن كرة القدم تفعل فى الشعوب أكثر مما تفعله لعبة أو رياضة أخرى .. وهى منذ فجر تاريخها كانت ومازالت مغموسة فى السياسة بقصد أو بدون قصد . فكبرياء كل شعب يعلو بالانتصار . وقديما قال خبراء الاجتماع أن كرة القدم هى الحرب المشروعة .. ولكنها فى العالم الأخر المتقدم تظل ساحة المعركة أسيرة العشب الأخضر ، بينما فى العوالم الأخرى تمتد الحرب إلى كل شىء لينهزم الجميع !
المقال نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة