المديح النبوي في موريتانيا.. فيضان روحي بالحب والتصوف
المديح النبوي الموريتاني يعتمد على قصائد معروفة ومنظومة باللهجة المحلية تستند لسرد قصصي للسيرة النبوية وغزوات المسلمين في فجر الإسلام
عمق المحبة المتأصلة في النفوس للرسول، محمد صلى الله عليه وسلـم، ترجمته الفنون الغنائية لما يعرف بـ"المدح" أو المديح عند الموريتانيين، كجزء أصيل من ثقافتهم وتراثهم الشعبي، ظل حاضرا وبقوة في وجدانهم.
والمديح هو موروث شعبي مفعم بالرمزية الدينية، ومشحون بالمحبة للرسول وصحابته الكرام، وفيضان روحي تسمو فيه النفس عن كل ما سوى محبة الله وطاعته، وهو ليس مجرد أداء غنائي فحسب بل هو فن وتصوف يصل بالإنسان إلى مرحلة الصفاء والسلام الداخلي التي تذوب معها الفوارق وتتعزز صلات التسامح بين الفئات والأعراق.
المديح والمناسبات
وسهرات المديح الشعبي هي حلقات للغناء بالسيرة النبوية المطهرة والشمائل المحمدية، تؤديها الفرقة بطريقة جماعية دون التزام بأي مقامات غنائية، وفي غياب الآلات الموسيقية الوترية واكتفاء بآلة الطبل التقليدية.
وارتبط هذا الفن بليالي رمضان والمناسبات الدينية، حيث اعتاد الموريتانيون بالمدن في ليالي الشهر الفضيل الإقبال على هذه السهرات للاستمتاع بأداء جماعي وفردي أحيانا في قالب غنائي وإنشادي يؤديه من يعرف شعبيا بـ"المداح".
وفي الأحياء الشعبية وفي مناطق الأرياف الداخلية من البلاد تمثل سهرات المدح في الليالي الرمضانية المقمرة مقصدا للكثيرين للاستمتاع بالمدائح التي تتضمن سردا للسيرة النبوية، بالإضافة إلى الأذكار والابتهالات التي تناسب روحانية الشهر الفضيل.
ومن شروط هذا الفن الغنائي الخاص أن يكون من يؤديه ملما بما يجوز في حق الرسل عليهم السلام أو عارفا على الأقل لشيء من السيرة النبوية المطهرة.
ويعتمد المديح النبوي الموريتاني على قصائد معروفة ومنظومة باللهجة المحلية تستند إلى سرد قصصي للسيرة النبوية وغزوات المسلمين في فجر الإسلام، كما تتطرق للمعجزات التي نقلتها كتب السير.
تغذية روحية
الباحث في التراث الشعبي الموريتاني يعقوب ولد السالك يعد أن "المدح" أو المديح هو ممارسة تعبدية في قالب فني غنائي على غرار ممارسات المتصوفة في بعض البلدان والمجتمعات الأخرى.
وأشار السالك، في تصريحات خاصة لـ"العين الإخبارية"، إلى أن نصوص المديح الشعبي مستوحاة من السيرة النبوية، حيث يغلب عليها التوسل والرجاء والتعلق بشمائل النبي، صلى الله عليـه وسلم، وهي مقتبسة من الكتب التي تدرس في المدارس الدينية الموريتانية.
واستعرض الباحث مراحل تطور أداء فنون المدح الشعبي، مبينا أنه بدأ في الأصل من خلال استخدام آلة الطبل فقط قبل أن يدخل "المدّاحون" في العصر الحديث الإيقاعات على هذا الفن، كما تطورت من كلمات حكاية شعبية لا تركز كثيرا على البناء الفني إلى كلمات منسوجة وفقا لمقامات الشعر الشعبي المتعارف عليها أدبيا.
أما الحسن البمباري، المدير الإعلامي لمركز "ترانيم" لفنون الشعبية في موريتانيا، فيعد أن فن المديح الشعبي هو طريقة تعبر من خلالها الفئات الاجتماعية الأقل معرفة بالعلم الشرعي عن تعلقها بدينها وحبها للمصطفى، صلى الله عليه وسلـم، من خلال هذا النمط من التعبير الروحي ذي البعد التصوفي.
وأشار البمباري إلى أن خصوصية فنون المدح الدينية ساهمت في انتشاره والاهتمام به من طرف جميع الشرائح الاجتماعية الموريتانية التي أصبحت تتذوق وتتفاعل مع هذا اللون من الفنون ذات الطابع التعبدي، معتبرا أنه جزء من الشعائر والممارسات الدينية للمجتمع الموريتاني.
خصوصيات
من أبرز خصائص فن المديح الشعبي في موريتانيا بحسب الباحثين هو غياب التدوين، حيث لا يزال هذا الفن ثقافة شفاهية يتوارثها "المداحون" ويتناقلونها من جيل إلى جيل.
ويتميز هذا الفن ببعده التعليمي، حيث شكل وسيلة للتعليم الديني وترسيخ القيم الإسلامية في أوساط مريدي هذا الفن وجمهوره فيتعلمون من خلاله أحكام دينهم، وسيرة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، بفعل نصوصه التي يحفظونها أبا عن جد.
وبهذه الميزة يختلف المديح الموريتاني عن الإنشاد الديني في الثقافة العربية المشرقية، إذ إن الأخير عبارة عن ابتهالات، بينما يكاد المديح الشعبي يشكل موسوعة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
ويتقرب المداحون خلال ممارستهم لهذا الفن إلى الله بالصلاة على رسوله عليه السلام والتغني بشمائله ومعرفة سيرته العطرة والترضي على صحابته بمجرد شروعهم في المديح، حيث يشعرون بطمأنة نفس ورغبة في الاستمرار وينسون أي أمر غير التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم.