أمس في دالاس كان أمام امتحان جديد في مسألة، مهما كانت كفاءاته ومسؤولياته في مسائل عديدة أخرى
أمس الأول في دالاس واجه رئيسٌ أميركي ذكيٌ ومهموم لحظة صعبة ومعقّدة من الاضطرابات العنصرية الأميركية تشبه وتختلف في آن معاً عن ما شهده في ولايتيه الرئاسيتين المشْرفة ثانيتها على الانتهاء.
كنتُ ولا أزال معجَباً كثيراً بالكثير من خطب ومقابلات باراك أوباما، ذكاء وثقافةً ودقةً وأحيانا شجاعةً ومسعىً للنزاهة.
وأمس في دالاس كان أمام امتحان جديد في مسألة، مهما كانت كفاءاته ومسؤولياته في مسائل عديدة أخرى، تبقى هي المسألة التي "ينتمي" إليها أولاً في التاريخ الأميركي وهي المسألة العنصرية كأول رئيس أسود للولايات المتحدة الأميركية وهو إنجاز نوعي للتطور الديموقراطي في العالم.
خطاب دالاس الطويل كان قوياً (وذكياً طبعاً).
ومع أنني أعتبر أن الكلمة الأشجع التي قالها أوباما في مناسبة داخلية أيام حملته الرئاسية الأولى هي التي توجّه فيها في لقاء لمنظمات الأميركيين السود بتحميلهم مسؤولية أساسية في نوع تربية أولادهم داخل البيت ونوع توجيههم وضرورة التصميم على تعليمهم حمايةً لهم من الانحراف للجريمة، وهذا كلام لا يجرؤ على قوله الكثير من السياسيين الأميركيين... مع ذلك كان خطابه الجديد، في لحظة صعبة تتمثل في جريمة سافرة ضد خمسة ضباط شرطة بيض، خطاباً ناجحاً من حيث شموليته وتوازنه.
إحدى أهم صياغاته كانت في قوله منتقداً "أننا" (المواطنون الأميركيون) "نطالب البوليس بالكثير ولا نطالب أنفسنا إلا بالقليل" (وهذا يصلح لمخاطبة الرأي العام في دول كثيرة بينها لبنان!).
صارح باراك أوباما مستمعيه في حفل تكريم الضباط القتلى الخمسة بأنه، رغم ثقته بأميركا، بات لا يعرف أو بات يشك أحياناً في ما إذا كان لا زال بإمكان الأميركيين، بيضاً وسوداً وأقليات، أن يفتحوا قلوبهم لبعضهم البعض، أي شكه أحيانا بالقدرة على تفاهمهم، رغم أنه شدّد على التقدم التاريخي في معالجة أميركا للمسألة العنصرية منذ إقرار قوانين الستينات من القرن الماضي.
كذلك واحدة من الصياغات الملفتة في خطابه كانت دعوته إلى تعزيز فكرة نظرة ضابط الشرطة للمراهق الأسود أمامه بافتراضه مكان ابنه، وبالمقابل تعزيز نظرة المراهق إلى الشرطي باعتباره مكان والده.
لم يهمل الرئيس أوباما مطلقاً حتى في مناسبة "بيضاء" كهذه، ضحاياها شرطة بيض، تقديمَ وجهة النظر السود الأميركيين والأقليات الأميركية وخصوصا الأميركيين ذوي الأصل الأميركي اللاتيني من حيث ربط تصاعد الجريمة بغياب الظروف التعليمية والاقتصادية والاجتماعية الملائمة من حيث أن الجريمة هي في العمق نتاج هذا الغياب.
وكان مثيراً أن يجد أوباما طريقة مقبولة في خطابه لذكر أو شبه شرح مبررات آخر شعار كبير للأقلية السوداء وأصبح حدثاً سياسياً في شوارع بعض أكبر المدن والولايات الأميركية وهو شعار "حياة السود مهمة" للاحتجاج على تزايد حالات قتل الشباب العُزّل السود في ملاحقات الشرطة لهم.
لا شك على المستوى الشخصي سيكون دائماً من المؤلم جداً على أول رئيس أسود لأميركا واختير بأكثرية شبابية بيضاء مرّتين، أن يجد عهده "عاد إلى الوراء" في المسألة العنصرية أو يشهد تجدّدَ توترات ضخمة يحملها جيل جديد من المناضلين السود وتستغلها عناصر إجرامية كما حصل في دالاس مع مقتل الضباط الخمسة على يد "مخبول" أسود.
للتذكير بما هو معروف للدلالة على استفحال المسألة العنصرية في قاع المجتمع الأميركي، فإن الأقليات التي تشكل 37,4 بالمئة من مجموع الأميركيين بمن فيها السود، هي نفسها تصبح أرقامُ ضحاياها أي القتلى في المواجهات مع الشرطة 62,7 بالماية من المجموع العام لهذا النوع من القتلى حسب إحصاءات 2015.
بالنسبة لرئيس مميَّز مثل باراك أوباما عندما تنفجر المسألة العنصرية في الولايات المتحدة فهي على المستوى الشخصي لا تتعلّق فقط بفشل أساسي في إدارته السياسية وإنما هي أيضا تهديدٌ لمعناه نفسه كشخص وكرئيس.
دعوني أُنْهِ هذه المقالة هنا، لأنني أكتب من وأعيش في منطقة حروب أهلية ومذهبية، بتعبير موفَّق جداً استخدَمَهُ في خطابه أمس الأول الرئيسُ الأميركي السابق جورج دبليو بوش في حفل دالاس وهو غير المعروف عنه الصياغات اللامعة. التعبير هو:
"غالبا ما نحاكم الآخرين بأسوأ ما عندهم بينما نحاكم أنفسنا بأفضل ما عندنا".
*نقلا عن جريدة "النهار"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة