هل استنساخ المصافحة الكولومبية مع مرادفاتها العربية من طراز "لاغالب ولامغلوب"و"عفا الله عما سلف" حل قابل للتطبيق أم أنه حلم ليلة صيف؟
أندريس فيلاسكو، المرشح السابق للرئاسة ووزير المالية في تشيلي وقد عمل بالتدريس في جامعتي هارفارد ونيويورك، كتب مقالاً تحت عنوان "مائة عام من الهدوء" بشر فيه بنهاية رسمية راسخة للحرب الأهلية في كولومبيا التي استمرت لأكثر من 50 سنة، وراح ضحيتها ربع مليون قتيل وشردت 6 ملايين شخص.
ورغم حضور تفاصيل كثيرة لم يتم الاتفاق بشأنها مثل: تسليم المتمردين سلاحهم طوعاً، والتوقيع على اتفاقية السلام النهائية.
إلا أن فيلاسكو اعتبر أن المصافحة التي تمت في هافانا بين الرئيس خوان مانويل سانتوس وزعيم المتمردين رودريجو لوندونيو إيتشفيري (الذي يعرف باسمه الحركي، تيموشينكو) كافية لوضع نهاية حقبة مأساوية وبداية حقبة واعدة جديدة.
كان سفك الدماء في كولومبيا قد بدأ في فترة "العنف" التي أعقبت مقتل المرشح الرئاسي الليبرالي خورخي إيليسر جايتان في العام 1948.
وقد توقف القتال بين الليبراليين والمحافظين مع ظهور الدكتاتورية الدموية لجوستافو روخاس بينيلا في 1953، ثم عاد شكل من أشكال الديموقراطية في 1958، ولكن العنف استمر.
أشار فيلاسكو إلى تجليات الحماسة الثورية في أميركا اللاتينية التي اتخذت شكل "الثورة الصبيانية لليسار" أو "مرض اليسارية الطفولي" حسب التعبير اللينيني، والتي ووجهت بقمع إجرامي من اليمين، وبانتشار الديكتاتوريات في البرازيل والأرجنتين وأوروجواي وتشيلي والسلفادور وجواتيمالا وهندرواس.
واعتبر أن أتعس تذكير بالأخطاء المأساوية لأميركا اللاتينية في الماضي هو فنزويلا.
فقد انتقل هذا البلد الذي حكمه منذ العام 1999 القائد الشعبوي هوغو شافيز ومن ثم خليفته نيكولاس مادورو، من الأزمة السياسية إلى كارثة إنسانية كاملة.
وطبقا للمجلس الوطني الفنزويلي، فإنه خلال 17 سنة من الحكم المبني على أساس أيديولوجية تشافيز اليسارية، سُرق أكثر من 425 مليار دولار أميركي أو تم تبديدها.
بشر فيلاسكو بحلول "حقبة السياسي الحصيف ببدلة رسمية زرقاء مملة، والذي يقر بأنها لا توجد حلول سهلة للمشاكل الصعبة، والذي يزدري الوعود الفارغة ويفضل العمل وبذل الجهد على طريقة تشرشل".
وهي الحقبة التي يمثلها "سانتوس في كولومبيا وماوريسيو ماكري في الأرجنتين وبيدرو باولو كوسزينسكي في بيرو.
وهم جميعهم مديرون مؤهلون وتكنوقراط حاصلون على تدريب عال.
وسيكون التحدي الرئيسي الذي يواجههم هو توجيه الاقتصاد والمضي به إلى الأمام من دون الشعبوية - والتضخم والأزمة المالية التي عادة ما تصاحبها.
العقد الأخير من القرن العشرين شهد عمليات انتقال سلمي في عدد من دول أميركا اللاتينية (تشيلي والبرازيل والمكسيك) من "ديكتاتورية خشنة أو ناعمة" إلى الديموقراطية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في النموذج المكسيكي سيطر الحزب الثوري الحاكم على السلطة في المكسيك لمدة 71 عاما تحت مسميات متعاقبة.
وكان قد تولى الحكم في عام 1929، عبر التأييد الجماهيري لخطابه الاشتراكي، وأسس جمهور أنصاره من بين الفقراء والطبقة الوسطى. وبمرور الأعوام، تحول إلى تحالف لشبكات تشمل الزعماء السياسيين المحليين، وكبار القادة العسكريين، والأحزاب السياسية.
وكان المنهج العملي للحزب أقرب إلى آلة سياسية حضرية.
وقوض محاولات تشكيل تحالفات طبقية أفقية أو تحالفات بين جماعات المصالح السياسية في داخل الطبقات الدنيا، عن طريق تقديم الخدمات في مقابل أصواتهم الانتخابية.
ورغم توجهاته الثورية فقد غير كثيراً منها كي يتعامل مع مختلف التحديات، مع حفاظه في الوقت نفسه على قبضته على المجتمع، حتى أصبح مجردا من أي لون سياسي محدد.
وكانت الانتخابات التشريعية المكسيكية مقبولة من الناحية الفنية، لكنها كانت في الواقع مجرد طقوس تهدف إلى إعادة سيطرة الحزب الواحد وتقويته.
وفي كل مرة شعر فيها الحزب بالتهديد، استخدم التزوير والفساد والرشوة والقمع.
وتسبب ترشيح الحزب الحاكم لساليناس في انتخابات الرئاسة عام 1988 في تمزيق الحزب نهائيا عام 1989، حيث استقال اثنان من القياديين به، وكونا تحالفا واسعا يضم أحزابا يسارية ونقابات عمالية ومنظمات قاعدية.
واتخذ هذا التحالف اسم حزب الثورة الديموقراطية.
وفاز ساليناس في الانتخابات بفارق ضئيل للغاية، واعتبر فوزه بمثابة نهاية الهيمنة للحزب الواحد.
وكانت الصحوة السياسية للمجتمع عاملا حاسما في عملية التغيير، حيث انضم المكسيكيون الذين سئموا الفساد وتزوير الانتخابات إلى منظمات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية.
وساهمت كل من الكنيسة، والحزب الليبرالي والقيادات الاجتماعية في رفع الوعي السياسي.
وتميزت تجربة المكسيك بالتركيز على المعطى السياسي وعلى انتهاج تمش تدريجي للإصلاح السياسي مكن من إنهاء حكم الحزب الواحد. فضلاً عن أن نمط التحول في المكسيك ومداه وطريقة حدوثه كان بدون احتجاج جماهيري وعنف.
وكان سيزار نافا، عضو مجلس النواب المكسيكي، رئيس حزب "بان مكسيكو" قد لخص عملية الانتقال إلى الديموقراطية بالقول: "الديموقراطية كالموسيقى، هناك طرق عديدة لعزفها لكنها في النهاية موسيقى".
والسؤال المطروح في النموذج السوري، في مشهد أزمة مركبة بنيوية ووظيفية لنظام سياسي فاشل: هل استنساخ المصافحة الكولومبية مع مرادفاتها العربية من طراز "لا غالب ولا مغلوب" و"عفا الله عما سلف" و"تبويس الذقون" حل قابل للتطبيق أم أنه حلم ليلة صيف؟
*نقلا عن جريدة "الوطن أون لاين"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة