ليس هناك شك في أن ثورة المعلوماتية التي بدأت بشائرها في الربع الأخير من القرن العشرين تكاد تكون أخطر الثورات التي قامت في العالم
ليس هناك أدني شك في أن ثورة المعلوماتية, التي بدأت بشائرها في الربع الأخير من القرن العشرين تكاد تكون أخطر الثورات التي قامت في العالم.
لقد شهد الإنسان أولا الثورة الزراعية والتي كان من إيجابياتها العظمي إعداد الأراضي للزراعة بصورة علمية أدت إلي مضاعفة كم المحاصيل المزروعة مما ساعد علي إشباع الحاجات الغذائية لملايين البشر وتلتها بعد ذلك الثورة الصناعية التي أدت إلي انقلاب كامل في حياة البشر
فقد ظهرت وسائل الاتصال الحديثة والتي تمثلت في التليفون واللاسلكي, ثم ما لبث أن برزت للوجود وسائل النقل غير المسبوقة في تاريخ البشرية وأبرزها القطارات التي قربت المسافات بين الأمكنة المتباعدة, والسيارات التي خلقت وسائل جديدة للحياة.
أما اختراع الطائرة فقد كان بحق الاختراع الثوري غير المسبوق والذي أدي إلي قدرة الناس علي السفر إلي قارات بعيدة, واستكشاف أنماط مختلفة للحياة في ظل ثقافات متنوعة.
غير أنه ــ بالرغم من الآثار العميقة التي تركتها الثورات السابقة- فإن الثورة المعلوماتية الكبري بمفرداتها المتعددة وأبرزها البث التليفزيوني الفضائي الذي جعل الإنسان في أي مكان في العالم يشاهد الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية في الوقت الواقعيRealTime لحدوثها مما أدي إلي تبلور وعي كوني عالمي أصبح يمثل الإرهاصات الأولي لبزوغ مذهب إنساني جديد يعيد صياغة المبدأ الذي أكده عدد من الفلاسفة في القرن العشرين, وهو أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان كما قرر من قبل الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين في كتابه ما الإنسان؟.
والواقع أنني حين راجعت سلسلة المقالات التي أكتبها هذه الأيام عن الهوية بمختلف تجلياتها اكتشفت أنني اهتممت بهذا الموضوع منذ زمن, ولم يفتني أن أتحدث عن مشكلات الهوية في زمن العولمة.
وحين عدت إلي مقال قديم نشر في كتابي العالمية والعولمة الذي صدر عام2000 عن دار نشر نهضة مصر وعنوانه صياغة الهوية وعولمة الخيال في القرن الحادي والعشرين وجدت أنني مبكرا في الواقع وضعت يدي علي مفاتيح التغيير في صياغة الهوية بتأثير الثورة العلمية والتكنولوجية, وانتهيت إلي نتيجة تبين لي اليوم ـــ كما سأشير في نهاية المقال- أنها كانت خاطئة.
لقد قلت في مقالي القديم في فقرة بعنوان صياغة الهوية وعولمة الخيال في القرن الحادي والعشرين إنه بتعمق آثار الثورة العلمية والتكنولوجية, وبامتداد ثورة الاتصال الكوني إلي كل آفاق المعمورة, سينتهي العهد الذي كانت فيه الهوية تصاغ بشكل شمولي قاهر أو بصورة جماعية قامعة.. إننا نشهد في الواقع ما بشرت به حركة ما بعد الحداثة من سقوط الأنساق الفكرية المغلقة!
لم تعد هناك إمكانية لصياغة نسق فلسفي وسياسي واقتصادي وثقافي مغلق علي غرار الماركسية الرسمية المقننة, والتي تفنن أصحابها في اعتقال المبادئ الماركسية الجدلية, حتي يتوقف الجدل وتظل السلطة القابعة في مكانها لا تريم, ولا تتجدد, إلي أن تحولت رموزها بالفعل إلي مجموعة من الديناصورات المتحجرة, والتي فاتها قطار الزمن العالمي, وإذا بهم يسقطون سقوطا مدويا. وهل شهد أحد من قبل في التاريخ القديم أو الوسيط أو الحديث سقوط إمبراطورية عظمي مثل الاتحاد السوفيتي في بضع سنين عددا, ودخولها العميق في متاهة التفكك والانهيار؟.
لقد سبق للبشر في القرن العشرين أن تمردوا علي الصيغ الشمولية الجامدة للأديان, التي حاولت أن تصوغ عقولهم وتشكل وجداناتهم, بل وأن تهندس أرواحهم وفق مشيئة مجموعة من الأحبار والكهان والمشايخ, الذين تجاهلوا روح الدين الحقة المبنية علي التسامح والحوار والانفتاح علي الآخر.
وفي سعيهم المحموم لتسييد رؤاهم الرجعية عن العالم, وتلقينها لأنصارهم, نسوا أن الإنسان ـــ مهما ارتفعت حدة القهر وعلا صوت القمع- كائن متمرد بطبيعته وهو إذا استنام عقودا من السنين, فلا بد أن يستيقظ في مكان ما, وفي زمان ما, ثائرا علي قيوده, مندفعا نحو آفاق التحرر والانعتاق ولذلك شهدنا محاولات متنوعة لأنصار الأديان السماوية الثلاثة, لصياغة مذاهبهم الدينية الخاصة, والتي كانوا- في المجتمع الأمريكي علي سبيل المثال- يستعيرونها من الأديان والمذاهب الشرقية, كالبوذية والكنفشيوسية, والزرادشتية.. وأحيانا كان المذهب الديني الجديد مجرد خليط من أديان ومذاهب شتي, ولكنها مع هذا التلفيق كان تشبع أرواحهم الطامحة إلي التجدد, والثورة علي القوالب الدينية المتجمدة, التي بنتها القيادات الدينية التقليدية التي غرقت في مستنقع مصالحها المادية, علي حساب جماهيرها من الفقراء والمستضعفين في الأرض.
غير أنه مع ثورة الاتصال الكوني سيحدث تغيير جوهري في مجال صياغة الهوية.. ذلك أن هناك تنبؤات رصينة تقرر أن الإنسان في عصر الإنترنت, حيث يستطيع الإطلاع بنفسه علي منتجات العقل الإنساني, وتجليات الروح البشرية, سيقوم فرديا بإنتاج هويته الخاصة, دون الخضوع للتأثير الطاغي لرجال الدين التقليديين, أو لوسائل الإعلام الجماهيرية.. بعبارة أخري ستزيد رقعة الحرية الإنسانية إلي غير ما حدود, وستزدهر إمكانات الإبداع إلي غير ما نهاية, وستتعاظم حرية الاختيار.
وهكذا ستكون الإنترنت أداة الاتصال الإنساني الأساسية من خلال القراءة المباشرة لمختلف مصادر الفكر المتنوعة, وعن طريق الاتصال من خلال البريد الإلكتروني, والاشتراك في جماعات النقاش الكونية التي أسست علي أساس ديمقراطي كامل, يسمح للرأي والرأي الآخر أن يعبر عن نفسه.
في هذا السياق ستزداد قدرة الفرد علي أن يختار رؤيته للعالم, في ضوء استبصار دقيق بأفكار الآخر, وستسقط الأنماط الجامدة والصور المتحجرة عن الشعوب والثقافات الأخري, وربما كان ذلك بداية حوار الحضارات الكوني, والذي سيسقط الحدود الجغرافية, ويقضي علي تحكم النظم السياسية السلطوية, التي طمحت دائما إلي تشكيل العقول وهندسة الوجدان, من خلال القمع المكشوف وعن طريق الغزو الخفي للأذهان, مستخدمة في ذلك كل أجهزة الدولة الأيديولوجية.
وفي يقيننا أن من شأن هذا الحوار الكوني صياغة نزعة إنسانية جديدة تقوم علي الحرية والتسامح واحترام الآخر وستذرو الرياح كل نزعات التطرف القومي والديني, حتي ولو حاولت في حقبة أولي أن تستغل إمكانية شبكة الإنترنت لنشر أباطيلها علي العالمين.
غير أن هذه النبوءة المبكرة التي قمت بها ثبت بعد الاستخدام الواسع المدي لتنظيم داعش للإنترنت أنها كانت خاطئة, لأن هذا التنظيم الإرهابي استطاع بالفعل ـــ بحكم إجادة استخدام شبكة الإنترنت- أن يجند العشرات من المسلمين وغيرهم من غير المسلمين وهو موضوع يستحق معالجة مستقلة.
*نقلا عن جريدة "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة