نحن المصريين دائمو الشكوى والمطالبة بالإصلاح، دون أن يتحقق هذا الإصلاح
نحن المصريين دائمو الشكوى والمطالبة بالإصلاح، دون أن يتحقق هذا الإصلاح، هذا هو ما ذهبت إليه فى مقالى السابق، والظاهرة محزنة ومخيفة، وسوف أحاول فى هذا المقال أن أبحث عن تفسير لها.
وأعرف أن التفسيرات المحتملة كثيرة، تتراوح بين لوم الغير ولوم النفس، أى بين إلقاء المسئولية على عوامل خارج إرادة المصريين، وعوامل تعود إلى صفات أو أعمال المصريين أنفسهم، ولكنى سأبدأ بشيء قد نتفق جميعا عليه، وهو أننا فى مصر كثيرا ما نعهد بمهمة الإصلاح إلى غير المؤهلين له فيه، فتكون النتيجة بالطبع هى عدم تحقق الإصلاح واستمرار الناس فى الشكوي.
قد نتفق على هذا، ولكن حتى هذا يحتاج إلى تفسير، وقد سمعت كثيرين من المصريين يزعمون أن السبب هو أنه ليست لدينا إلا حفنة صغيرة للغاية من هؤلاء القادرين على الإصلاح والراغبين فيه، فلا عجب أن يتولى الأمر غير المؤهلين له، هذا التفسير أرفضه رفضا تاما، واعتبره بالغ السخافة، ليس لأنى أريد أن أبرئ المصريين من العيوب، ولكن لأنى لا أجد هذا من عيوبهم، بل ولعله ليس من عيوب أى شعب آخر.
أوجه الإصلاح المطلوب فى مصر كثيرة وواضحة وضوح الشمس، ووسائل الإصلاح ليست عصية على النحو الذى يتصوره كثيرون (كما ألمحت فى مقالى السابق)، نعم، الإصلاح يحتاج إلى رؤية، أى عدم قصر النظر على جانب من جوانب الخلل المطلوب إصلاحه دون غيره، بل النظر إليه فى علاقاته المتعددة بجوانب الحياة الأخري، ومن ثم وضع ترتيب للأولويات يأخذ فى الاعتبار هذه العلاقات المتعددة، هذه الرؤية المطلوبة لا تحتاج إلى العلم بمقدار ما تحتاج إلى حكمة، والمتعلمون فى مصر كثيرون، ولكن الحكمة أيضا متوافرة فى مصر (ربما أكثر من غيرها من البلاد)، ما أكثر المتعلمين المتسمين أيضا بالحكمة فى مصر، الذين يجرى استبعادهم باستمرار، عبر حقب التاريخ المختلفة، من أن يلعبوا أى دور مؤثر فى الحياة العامة، فتكون النتيجة تأخير الإصلاح أو عدم مجيئه أبدا.
أقول «دائما»، ولكن الحقيقة أنه تحدث أحيانا من حين لآخر بعض الاستثناءات، ثم سرعان ما يجرى «تصحيح» الأمر، باستبعاد الصالح وإحلال الطالح محله، يحدث أحيانا «خطأ» ما، فيأتى مثلا وزير رائع للتعليم، أو آخر رائع للداخلية، فيدهشنا هذا وذاك بسرعة تنفيذه للإصلاحات المطلوبة، وتظهر النتائج الرائعة للجميع فى عدة أيام، ولكن سرعان أيضا ما تتنبه هذه «القوى الخفية» إلى أن استثناء قد وقع، أو خطأ جرى ارتكابه فأتى بهذا الوزير الكفء والمخلص إلى منصبه، فيتم استبعاده فى أول فرصة.
إذا كان هذا صحيحا فالسؤال يصبح «ما هى هذه القوى الخفية المانعة لأى إصلاح؟».
لا يمكن إنكار دور الاستعمار عندما كان هناك ما نسميه بالاستعمار، ذلك أن مصلحة المستعمر كثيرا ما تتعارض مع مصالح الشعب الخاضع له، وإن لم يكن هذا التعارض موجودا دائما، كان من سياسات الاحتلال الانجليزى طوال النصف الأول من القرن العشرين، تعطيل التصنيع فى مصر، وتعطيل جهود محو الأمية، ولكن سلطة الاحتلال الانجليزى لم تمنع مثلا إنشاء جامعة فؤاد الأول فى 1908، التى كان لها دور ممتاز فى النهوض بالحياة الثقافية فى مصر، كذلك قام الاستعمار الأمريكى فى النصف الثانى من القرن (وإن لم يكن يوصف بالاستعمار)، بتعطيل سياسة الاكتفاء الذاتى فى إنتاج الغذاء (لتصريف الفائض الأمريكى من الحاصلات الزراعية واستخدام ما يسمى بالمعونة الغذائية فى توجيه السياسة المصرية فى الاتجاه المطلوب)، ولكن هذا الاستعمار لم يقف ضد قانون الإصلاح الزراعي، بل وشجعه، كما شجع نوعا من أنواع التصنيع، وساعد هذا وذاك على نمو الطبقة الوسطى فى مصر، خلال كلا النوعين من الاستعمار، ما أكثر المصريين الأكفاء والقادرين والراغبين فى الإصلاح، الذين تم استبعادهم من المساهمة فى الإصلاح لأن أفكارهم لا تتفق تماما مع رغبات المستعمر.
ولكن الاستعمار ليس هو «القوة الخفية» الوحيدة التى عطلت الإصلاح فى مصر، هناك أيضا قوة «الفساد» فى الداخل، وهى كثيرا ما تنشأ ابتداء بسبب الاستعمار، ولكنها تنمو وتترعرع بقوتها الذاتية وقوانينها الخاصة.
فى خلال الثلاثين عاما التى حكمت مصر فيها أسرة حسنى مبارك، انتشر الفساد بالتدريج ولم يجد الاستعمار الأمريكى (أو الإدارة الأمريكية، اذا فضلنا تعبيرا أكثر تأدبا)، أى غضاضة فى دعم حكم مبارك سرا وعلنا، لأنه كان يحقق للأمريكيين والإسرائيليين ما يشاءون، تظاهرت الإدارة الأمريكية ووسائل إعلامها بأنها تكره الفساد وتحاربه، ولكنها كانت راضية عن الفساد فى البلاد الخاضعة لنفوذها وتشجعه، وهذا هو حال الاستعمار دائما، والفاسدون فى الداخل يعرفون هذا جيدا، ويعرفون أن استمرارهم فى نهب البلد متوقف على استمرارهم فى خدمة العدو الخارجي.
المشكلة عويصة إذن، فلا عجب أن أصبحت من السمات المستمرة للتاريخ المصري، إذ يحتاج التخلص منها إلى تغيير فى الظروف الخارجية من ناحية، وصحوة شعبية من ناحية أخري، ولا عجب أن يشعر المصريون بفطرتهم، فى كثير من فترات حياتهم، بما يشبه القنوط.
قرب نهاية عهد حسنى مبارك، فى أواخر سنة 2010، زارتنى صحفية كندية، ووجهت إلى بعض الأسئلة عن السياسة والاقتصاد فى مصر، فلما لاحظت كثرة ما أوجهه من انتقادات للسياسات الجارية، سألتنى عما يمكن أن أفعله لو قدر لى أن أصبح رئيسا للجمهورية، كان أول ما ذكرته أن أضع قائمة بثلاثين أو أربعين منصبا من المناصب المهمة فى الدولة، من حيث قدرة من يتولاها على أن يؤثر فى ميادين مهمة فى حياة المصريين، كوزراء الاقتصاد وواضعى الخطط الاقتصادية، أو وزراء التعليم وواضعى المقررات الدراسية، أو المسئولين عن التليفزيون، حيث يجلس ملايين المصريين ويستمعون إلى مناقشات لابد أن تؤثر فى طريقة تفكيرهم، ومن الممكن أن تستبدل بها برامج أكثر نفعا كأن تسهم فى محو الأمية مثلا، ثم أصدر قرارا بإعفاء هؤلاء الثلاثين أو الأربعين شخصا من مناصبهم، وأحل محلهم غيرهم ممن أعرف عنهم صفات مختلفة، وعلى الأخص الرغبة فى الإصلاح، والاستعداد لتنفيذه، كنت أعرف، وأنا أقترح هذا أنى أعيش فى الخيال، ولكنى كنت أعرف أيضا أنى لست مخطئا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة