في ذكرى رحيله.. أين "البردوني" يا صنعاء؟
عبد الله البردوني صوت الشعر المحلق ورافع لواء التجديد في إطار الكلاسيكية أهم وأبرز الأصوات الشعرية التي أنجبها اليمن في القرن العشرين
"فظيعٌ جهل ما يجري ... وأفظعُ منه أن تدري"..
عبد الله البردوني
بيت من روائع ما قال شاعر اليمن الكبير، الراحل، عبد الله البردوني، صوت الشعر المحلق ورافع لواء التجديد في إطار الكلاسيكية، أهم وأبرز الأصوات الشعرية التي أنجبها اليمن في القرن العشرين، والذي تحل ذكرى رحيله الـ 18، هذه الأيام، عاش حياته مناضلا ضد الرجعية وكافة أشكال القهر ببصيرة الثوري الذي يريد وطنه والعالم كما ينبغي أن يكونا، وأحب وطنه بطريقته الخاصة، رافضا أن يعلمه أحد كيف يحبه.
تحسس طريقه الشعري على استحياء وخفر، ثم سرعان ما تخلص من أصوات الآخرين وصفا صوته عذبا، شعره فيه تجديد وتجاوز للتقليد في لغته وبنيته وموضوعاته حتى قيل "إن هناك شعرا تقليديا وشعرا حديثا وهناك شعر البردوني"، أحب الناس وخص بحبه أهل اليمن، وهو صاحب نظرة صوفية في حبهم ومعاشرتهم إذ يحرص على لقائهم بشوشا طاويا ما في قلبه من ألم ومعاناة ويذهب إلى عزلته ذاهلا مذعورا قلقا من كل شيء.
تناسى الشاعر نفسه وهمومه وحمل هموم الناس، ودخل البردوني بفكره المستقل إلى الساحة السياسية اليمنية، وهو المسجون في بداياته بسبب شعره والمُبعد عن منصب مدير إذاعة صنعاء، والمجاهر بآرائه عارفا ما ستسبب له من متاعب، في عام 1982 أصدرت الأمم المتحدة عملة فضية عليها صورته كمعاق تجاوز العجز، ترك البردوني دراسات كثيرة، وأعمالا لم تنشر من أهمها سيرته الذاتية. له عشرة دواوين شعرية، وست دراسات.
من نماذجه الشعرية الدالة، ما يقوله في قصيدته "وردة من دم المتنبي":
ما اسم هذا الغلام يابنَ مُعاذٍ؟ اسمه (لا): مِن أين هذا المسمى؟
إنه أخطر الصعاليك طُرّاً إنه يعشق الخطورات جمّا
فيه صاحت إدانة العصر: أضحى حكَماً فوق حاكميهِ وخصمًا
قيل: أردَوه، قيل: مات احتمالاً، قيل: همّت به المنايا، وهمّا
قيل: كان الردى لديه حصاناً يمتطيه برقاً ويُبريه سهما
الغرابات عنه قصّت فصولاً كالتي أرّخت (جدي جديساً)
إضاءة تاريخية
عبد الله البردّوني (1929 ـ 1998)، شاعر يمني كُفّ بصره في السادسة من عمره، كلاسيكي مجدد، ذائع الصيت، ينسب إلى القرية التي ولد فيها. تلقى تعليمًا تقليديًا في مرحلة مبكرة من عمره، ثم واصل تعليمه في «مدرسة دار العلوم» في العاصمة صنعاء، لمدة عشر سنوات، عين بعدها مدرّسًا في المدرسة ذاتها، واشتغل ـ إلى جانب التدريس ـ بالكتابة الإذاعية، والتحرير الصحفي في بعض المجلات: «مجلة الجيش»، و«مجلة الحكمة»، وراسل صحفا ومجلات كثيرة، يمنية وعربية، وذاق مرارة السجن سنة 4591.
ظهرت موهبته الشعرية واضحة منذ القصائد الأولى التي نشرها (وأولاها مؤرخة بسنة 1947). وفيها حسَّ هجائي للناس والزمن، وتبرم بالحياة، وتعبير عن المرارة الناشئة عن العاهة التي عاشت معه منذ الصبا المبكر، كما أن فيها قدرته على الصياغة الجزلة التي تعبر عن ثقافته التقليدية الممزوجة بروح منطوية متشائمة هجّاءة سرعان ما فارقته، وانغمس في حياة شعرية أرحب، فاختفت نبرة الشكوى من شعره، وكف عن التعبير عن عاهته، واستبدل بذلك شعرا وطنيا رائقا يمجد التمرد على الواقع، ويصبو إلى التنوير، ويناصر الثورة على كل ألوان الضعف والتخلف.
له من الأعمال الشعرية: "من أرض بلقيس" (1961)، و"في طريق الفجر" (1967) و"«مدينة الغد" (1970)، و"لعيني أم بلقيس" (1973)، و«السفر إلى الأيام الخضر» (1974)، و"وجوه دخانية في مرايا الليل" (1977)، و"زمان بلا نوعية" (1979)، و"ترجمة رملية لأعراس الغبار" (1983)، و"كائنات الشوق الآخر" (1985)، و"رواغ المصابيح" (1989)، و"جوّاب العصور" (1991). وله من المؤلفات النثرية: "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه" (1972)، "قضايا يمنية" (1978)، و"فنون الأدب الشعبي في اليمن" (1981)، وأعمال أخرى.
استخدم البردوني الشكل الشعري الكلاسيكي في كل مراحله الشعرية، وصاغ تجاربه في شعر موزون مقفي فيه قوة التقليدي وصرامته، وفيه مرونة الحديث ورقته، واستعار من فنون القول الأخرى ما أثرى به أساليبه الخاصة داخل "الموزون والمقفي" كأسلوب الحوار، والقصص، وتعدد الأصوات الشعرية في القصيدة الواحدة، والتضمين من الموروث الديني والتاريخي والأدبي وفي مقدمة ذلك الأمثال الشعبية والأساطير، وعارض كثيرا من عيون الشعر القديم، وبخاصة شعر أبي تمام، متوقفا بصفة أخص عند قصيدته المعروفة "السيف أصدق أنباء من الكتب"، وقد عضّد كل ذلك الديباجة الكلاسيكية عنده، وأكسب قصيدته نوعا من الوحدة الموضوعية والعضوية، وتلاحما في النسيج الشعري تميز به عن كل معاصريه.
كذلك أعاد البردوني استخدام مفردات البلاغة القديمة من استخدام للفاصلة والسجع، والحذف، والإضمار، والتكرار، والتناقض، والمفارقة، وذلك في نسق بياني كاشف ساعده على التشكيل بالصورة، وقوّى لديه تراسل الحواس، فأصبح شعره حافلا بالصور السمعية والبصرية، وتفنن في استخدام الألوان (وهو الفاقد لنعمة البصر) أيّما تفنن. ونتيجة لذلك نجح شعره في تحقيق المعادلة الصعبة في الجمع بين صرامة الصياغة وجيشان العاطفة، وبين جهارة الموسيقى وهمس المشاعر، وأصبح من السائغ النظر إليه على أنه كلاسيكي مجدد، أو مجمع أساليب تعبيرية من كلاسيكية، ورومانسية، وواقعية، ورمزية. وبكل ذلك ترك أثره الواضح علـى صياغـة القصيدة العربيـة، وقدرتها على استيعاب التجربة المعقدة المتنوعة للشاعر الحديث.