"الإبرو".. تشكيل لوني على الماء.. بروح الصوفية
بروح المبتهل المرتجل وفلسفة المتأمل في الخلق يقف "سليمي ألان" وسط جموع الناس ممن انجذبوا إلى فنّه الفريد
بروح المبتهل المرتجل وفلسفة المتأمل في الخلق يقف "سليمي ألان" وسط جموع الناس ممن انجذبوا إلى فنّه الفريد. "ألان" ليس بمنشد ديني يصدح بالموشحات أو درويشاً مولوياً، لكنه ليس بمنأى عن فلسفة هذه الفنون، فهو فنان تشكيلي تركي يحترف فنا يعود بجذوره إلى تراث فني عثماني قديم يحمل فلسفة خاصة يدعى "الإبرو" أو "الرسم على الماء".
شعور التعجب والاستغراب هو حال كل من يلتقي بألان مصادفة، فكيف لرجل ناضج مثله أن يقف ويلعب كالأطفال بالماء والألوان؟ أو هكذا يخيَّل للناظر من الوهلة الأولى. حب الفضول البشري هنا ينتاب المشاهد فيجعله يقف متسمراً قرابة 20 دقيقة دون حراك مراقباً ما يفعله الفنان، وفي نهاية العرض لن يسع المشاهد إلا التصفيق تحية لهذا الفنان وفنه العثماني.
يبدأ العرض بجلوس ألان أمام حوضه المائي ومن حوله قوارير مُلئت بألوان صارخة وقوية، وبجانبه عدة مكونة من ادوات حديدية مدببة كالمسامير والدبابيس والأبر. بكل هدوء ورفق واتزان يمسح ألان سطح حوض الماء رغبة في تنظيفه من أي شوائب عالقة على السطح. يمسك الفنان بفراشيه المغموسة في الألوان وبكل حنان يربت عيها واحدة تلو الأخرى لينثر ما غمرت به من لون على سطح الماء بشكل عشوائي غاية في الجمال، ومن ثم يتم تحريك هذا الكرنفال اللوني المنتشر على سطح الماء بالأدوات المدببة لعمل أشكال لونية فريدة التكوين تحمل في تقنيتها التي تبدو بسيطة كثير من التعقيد، يعقّب الفنان على هذا لـ "العين" قائلا: "ما أقوم به فن يدعى "الإبرو" أو كما يعرف يفن الرسم على سطح الماء، إنه تراث تركي قديم يعود للدولة العثمانية، وهو معروف في تركيا ويرجع إلى القرن 15 تقريبا".
يسمى الإبرو في الغرب "بالورق التركي" وهو بالأساس فن شرقي تقليدي، وتأتي أصل كلمة "إبرو" من كلمة "إبر" الفراسية والتي تعني الغيوم، كما أن كلمة "إبرو" تعني "ماء الوجه" والتي هي بالفارسية "أب- رو". لم يعرف حتى الآن بالتحديد منشأ فن الإبرو ولا في أي زمن ظهر بالضبط، ولكن الأكيد أنه فن تزيين خاص بالشرق ازدهر لدى العثمانيين.
هناك بعض المصادر الإيرانية تقول إن الإبرو ظهر أولاً في الهند وحُمل من هناك إلى إيران ومن ثم إلى الدولة العثمانية، ومصادر أخرى تعتقد أن الأبرو ظهر في تركمانستان وانتقل من هناك إلى إيران ومنها إلى العثمانيين.
لقد استخدم هذا الفن قديما في تخطيط وتجليد الكتب عموما والمصاحف بشكل خاص، كما لجأ إليه بعض الفنانين في اللوحات الفنية كونه يحمل ألوانا ونماذج تشكيلية جميلة، ويحتاج هذا النوع من الفن إلى طول بال وصبر كونه يتطلب وقتا وجهدا من محترفه، فهو ليس بالشيء السهل اليسير سواء في تنفيذه أو فيما يحمله كمضمون، فـ"الإبرو" يحتوي على فلسفة خاصة تقترب من الصوفية، والقطعة الفنية المنتجة من هذا الفن مستحيل أن تخرج مثيلا لها فيما بعد، لذلك تعد كل قطعة وحدة فريدة ومتفردة في ذاتها. هذا ما قاله "متصوف الإبرو" عن فنه، مضيفا: "في كلية الفنون بتركيا عرفت الإبرو ومن الوهلة الأولى عشقت هذا الفن، لذا ذهبت إلى أستاذ كبير ومتخصص في الرسم على الماء كي يعلمني إياه. وخلال ثلاث سنوات تمكنت من ممارسة هذا الفن وامتلاك أدواته لحد كبير، لكن وعلى الرغم من ذلك أرى أن هنالك المزيد يمكن تعلمه.
كفنان وحرفي في الإبرو أشتغل على اللوحة ومكوناتها وأدواتها دون أن أعلم ماذا يمكن أن يخرج معي فالقدر هو الذي يفصح عما ستحمله الرسمة، ولا يعرف أي رسام مهما كان محنكا ومخضرما ما يمكن أن يخرج معه، والصدفة هنا لها الدور الأكبر في عمل التشكيل اللوني العام للوحة. في هذا الفن اليد ما هي إلا مترجمة للروح، والروح هي التي ترسم. أشعر بهذا في كل لوحاتي حتى أن أشكال هذا الفن تجعني أتيقن من هذا الإحساس وبقوة".
خامات طبيعية المصدر وتكوينات لونية مجردة وزهور وورود اقتربت شكلها من مثيلاتها الطبيعية، وخطوط عربية وآيات قرآنية، تلك هي وحدات الإبرو الفنية وسبب إحساس الفنان بروحانية فنه. وحدات هامت كالسحب سابحة على سطح الماء وأشكال سحبها الفنان على ورقة فشكلت معالم لوحته المرسومة، وعن هذا يقول ألان: "يعد هذا الفن أمتع ما يمكن عمله فالتلقائية الطبيعية هي فلسفة الإبرو. حيث تصنع فراشي نثر اللون على الماء من ذيل الخيل، أما الأحبار فتستخرج من مواد طبيعية، والألوان مصنوعة من الزهور الطبيعية، ويدخل في تكوينها مواد عشبية وأنواع معينة من التراب الملون، وتضاف لتلك الألوان مواد طبيعية أيضا تُبقها طافية على سطح الماء".
إن سر هذا الفن مخبأ في بساطته ولذته تكمن حينما يوضع الورق على سطح الماء وتسحب الورقة فتخرج معها الرسمة. وبنفس الهدوء والاتزان الذي بدأ فيه الفنان طقوس لوحته ينهيها بسحب للألوان الطافية على سطح الماء إلى الورق كي تخرج لوحة لونية بها وردات البنفسج ويعود لينظف حوضه المائي مجددا شارعا في لوحة جديدة يبدأها باستحضار الروحانيات الصوفية الكامنة وراء فلسفة هذا الفن.
خطوات الرسم على الماء
ورق من النوع الذي يمتص الصبغات وله قوة تحمل عالية ويسمى "أهارسنر"
حوض كبير على شكل مربع يحتوي ماء.
يخلط الماء بمقادير معين مع مادة صمغية تسمى "كيترة" تساعد الألوان في البقاء طافيا وتستخرج تلك المادة من ساق عشبة تعرف باسم "عفان".
يترك المستحضر لمدة 12 ساعة ويحرك من فترة لأخرى، في نهاية هذه المدة تذوب "الكيترة" وتتحول إلى مستحلب لونه قريب من البياض.
تجهز الصبغات الطبيعية في فناجين صغيرة وتذاب بالتحريك ويضاف لها ملعقتان من مرارة العجل في كل فنجان وذلك من أجل إبقاء اللون طافيا دون ترسب.
تبقى الصبغات على وجه المستحلب على شكل بقع لكن بعد خلط وتحريك هذه البقع تتشكل أشكال ونماذج مبهرة وغريبة.
الخطوة الأخيرة تكمن في وضع الورقة الخاصة على سطح هذه الشكل العائم على الماء لمدة 5 - 10 ثوانٍ ثم ترفع وتقلب بعيدا عن الحوض بكل حذر.
aXA6IDMuMTQyLjI1MC44NiA= جزيرة ام اند امز