غياب جورج الزعني.. الذي اخترع حياة ثقافية لبيروت في زمن الحرب
في أواخر الثمانينات، كان جورج الزعني (1942– 2015) قد أصبح "أسطورة مدينية" (urban legend). حينها لم يكن في بيروت.
في أواخر الثمانينات، كان جورج الزعني (1942– 2015) قد أصبح "أسطورة مدينية" (urban legend). حينها لم يكن في بيروت، كان قد اضطر إلى الهجرة والهرب إلى لندن، بعد تفجير "السماغلرز إن"، مقصفه الذي يضم مطعماً وغاليري، أو لنقل مقرًّا ثقافيًّا لمن بقي من نخبة المدينة من مثقفين وفنانين وكتّاب، وجدوا فيه آخر ملاذاتهم في زمن حروب الشوارع.
هناك في رأس بيروت، بشارع مكحول، ورغم فوضى الحرب والسلاح والميليشيات، ومنذ العام 1977، راح جورج الزعني ينظم سنويًّا ما كان يُعرف بـ"مهرجان مكحول": خليط من فرق موسيقية متوزعة على نواصي الشارع، معارض لهواة الفن التشكيلي ومحترفيه، فرق راقصة، بسطات أنيقة للحِرف والأشغال اليدوية، أكواخ سندويشات.. كل ما يضمه "الكرنفال" من أنشطة ومظاهر فرح وفن وثقافة وفرجة واحتفال.
إصراره على تغليب صورة التمدن على صورة الخراب، جعل منه تلك "الأسطورة" الفردية، فتبنى مهمة مستحيلة تقريبًا في ذاك الزمن: ديمومة الاحتفالات، تنظيم المعارض للفنانين وترويج بيع اللوحات، وحماية الأعمال الفنية، ودعم الكتّاب الجدد والنشر، وترتيب المناسبات الثقافية.
هكذا كان جورج الزعني، مؤسسة في شخص واحد، "منشّط" ثقافي عنيد ومثابر، أراد أن تبقى الحياة في بيروت في زمن القذائف والرصاص والموت اليومي، فجمع حوله الموسيقيين والشعراء وخصوصًا الفنانين التشكيليين، قبل مهرجان المكحول وبعده، كان أحد أبرز منظمي المعارض التشكيلية، في الغاليري التي افتتحها بشارع بلس (قرب الجامعة الأميركية)، دشن معرضًا جماعيًّا لا يُنتسى، كان بمثابة مانيفستو لانعطافة في تاريخ الرسم اللبناني، مع تقديمه لجيل السبعينات أمثال رفيق شرف وسيتا مانوكيان.
ظل ينفق من ثروة مالية موروثة على الفن والمهرجانات والمعارض التي يقيمها، مهجوسًا بإبقاء الحياة الثقافية في قلب العاصمة، أي كان فنانًا في "إدارة" الفنون وتأليف يومياتها، وهو لم يكتف أبدًا بدعم الفنانين، فكانت له أعمال في النحت والرسم والكتابة والأفلام، مازجًا الممارسة الفنية بنمط عيش وفق مشتهاه وتصوره للحياة البيروتية.
بهذا المعنى، لم يتحمله حينها أمراء الحرب، ففجروا نادي "السماغلرز إن" ومحترفه، وإذ ذهب إلى لندن، أسس هناك "الرابطة الثقافية" اللبنانية، مطلقًا سلسلة مشاريع واحتفالات ومعارض لبنانية وعربية، محتفيًا ومكرمًا محمود درويش وإدوارد سعيد، منظمًا الأمسيات الشعرية، والندوات واللقاءات، كجزء من حضور عربي حضاري في العاصمة البريطانية.
الإنجاز الأبرز له والمستمر، هو تأسيسه مهرجان بيت الدين العالمي في العام 1985، كردٍ عنيد على توقف مهرجانات بعلبك حينها، رفضه لواقع الحرب والخطر وموات المدينة، جعله يحمل في جعبته مشاريع عديدة جاهزة للتنفيذ.
ما أن انتهت سنوات غربته، واستتب السلم في لبنان، حتى عاد إلى بيروت، مستأنفًا شغفه واندفاعه النادر في تأليف يوميات ثقافية، كان الزمن قد تغير، وكانت بيروت على موعد مع تحولاتها العمرانية والسياسية والاجتماعية، عرف كيف يتأقلم مع تلك التحولات، منفتحًا على فنون البوب آرت و"التجهيز" والأفلام الوثائقية، وتداخل السياسة في السؤال الثقافي، وبروز أجيال جديدة بأدوات جديدة، عاد كأنه لم يغادر، لكن التعب والمرض وآثار الزمن أنهكت جسده.
في شهر حزيران / يونيو الماضي، نظّم جمع من أصدقاء الزعنّي بالتعاون مع "اللجنة الوطنية لليونسكو"، وبرعاية وزير الثقافة، حفلاً تكريميًّا له، تقديرًا لمساهماته الفعّالة في إثراء الحياة الثقافية اللبنانية، في قصر الأونيسكو في بيروت، كان ذلك وداعًا رسميًّا لشخص استثنائي، ساهم بتفانٍ وغيرية نادرين في "رسم" ذاكرة المدينة وتاريخها الثقافي.
ربما كانت بيروت دومًا محظوظة بهكذا أفراد، فجورج الزعني دأب خلال أكثر من أربعة عقود متتالية على إبراز القيم الجمالية والإنسانية التي يحملها لبنان، بطبيعته ورجالاته وموارده، ببيئته ومحمياته، بتراثه وثقافته، منتهجًا طريق الفن بعيدًا عن أي اعتبار سياسي، وطريق العلم والمعرفة والبحث الدائم والمستمر، فأقام المعرض تلو المعرض والمهرجان تلو الآخر، بجهده وعطاءاته، بمثابرة ومن دون يأس أو انقطاع، مهما اختلفت ظروف البلد، وعلى نفقته الخاصة بلا أي مقابل.
aXA6IDMuMTQ1LjEwLjY4IA== جزيرة ام اند امز