"المتنبي".. طقس صباح كل جمعة لمثقفي بغداد
في شارع سكن قلب بغداد، وأخذ من الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي اسمه، يفتح كتاب العالم أوراقهم للمثقفين، والروائيين والرسامين والطلاب
في صباح لا يتكرر في أماكن كثيرة من العالم، صباح عراقي خالص، وفي طقس ثقافي ربما تشابهه طقوس مماثلة في بعض البلدان العربية، يستيقظ "المتنبي" صباح كل يوم جمعة ويبدأ بعرض أجمل ما يمكن أن يُشترى.. الكتب... كتب قديمة أو حديثة، قصص، روايات، موسوعات، قواميس، ماركيز، كونديرا، جبران، نجيب محفوظ، أبي نواس، السيّاب.. كلهم يجتمعون هنا.
في شارع سكن قلب بغداد، وأخذ من الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي اسمه، يفتح كتاب العالم أوراقهم للمثقفين، والروائيين والرسامين والمسرحيين والصحافيين والشعراء والطلاب.. الشارع أسس منذ عام 1932، عندما كان اسم الشارع "السراي"، ثم سمي بـ"المتنبي" في عهد الملك فيصل الأول... شارع بات له "إخوة صغار" في العراق أيضاً، من "شارع كركوك" إلى "شارع البصرة".. لكنه يبقى الأهم والأعرق والأكبر.
يقع المتنبي الشارع قريباً من القشلة حيث مقر الحاكم العثماني لبغداد قبل استقلال العراق عام 1921 وعلى مقربة من ضفة الرصافة لنهر دجلة، وقام على أنقاض سوق الوراقين العباسي الشهير.
في التسعينات وبسبب ظرف الحصار الذي عاشه العراق، بعد حرب الخليج الثانية، تحول السوق إلى مزادات للكتب تقام في الهواء الطلق كل يوم جمعة، إذ اضطر معظم أدباء العراق إلى بيع كتبهم لسد رمق العيش، حتى أصبح نعيم الشطري أحد العلامات المميزة لشارع "المتنبي"، فهو صاحب أكبر مزاد للكتب في الشارع، يجتمع الناس حوله من المثقفين والشعراء والكتاب ليفوزوا بأحد الكتب الثمينة من مزاد العم نعيم، الذي يبدأ بالصراخ بصوته الجهوري، نفتتح المزاد بقصة الحضارة، من يشتري.. من يشتري… وهكذا يتوافد الأدباء على هذا الصوت ويستمر حتى المساء.
لكن نعيم الشطري رحل عن عالمنا، واختفى صوته من الشارع، واختفى كذلك واحد من أجمل طقوس الشارع، ألا وهو مزاد الكتب، كما اختفى أعلام آخرون من أدباء ومفكرين وشعراء، بعضهم غادر العراق إلى المنافي، وبعضهم أخذتهم الهجرة القسرية بسبب الظرف الأمني المتردي الذي عاشه العراق خاصة بين عامي 2006 و 2007 ولعل في مقدمة من يكابد مرارة ذلك التردي المثقفين.
شارع المتنبي بالنسبة لمثقفي العراق ليس مجرد مكان لبيع وشراء الكتب، بل هو طقس معتاد ومكان يجتمع فيه أغلب هؤلاء المثقفين بلا موعد، فيوم الجمعة بالنسبة للعديد منهم هو يوم شارع المتنبي.
يزدهر هذا السوق بالعروض المميزة والعناوين الجديدة التي تتطلع إليها عيون الباحثين عن آخر الكتب في عالم الثقافة، وعلى الرغم من أن هذا السوق يفتح أبوابه كل أيام الأسبوع إلا أن يوم الجمعة يوم مميز، يوم أشبه بكرنفال أو مهرجان يتقاسم بطولته الكتب والأدباء وأرصفة شارع المتنبي.
وتعرض شارع المتنبي، شأنه شأن أي معلم عراقي إلى تفجير بسيارة مفخخة عام 2007، أسفر عن مقتل وإصابة ما لا يقل عن 100 شخص، فيما التهمت النيران أشهر مكتباته.
وبعد تغيير النظام ودخول القوات الأمريكية عام 2003، دخلت إلى السوق كل الكتب التي كانت ممنوعة أيام النظام السابق، ومنها بعض الكتب الدينية، وكتب أدباء عراقيين كتبوها في المنافي، وكتب كانت تفضح النظام من خلال طروحات سياسية، وكانت وزارة الثقافة العراقية تفرض نظاماً صارماً للرقابة على الكتب التي تدخل البلاد...
غير أن حرية اقتناء الكتب دفعت مقابلها حريات كثيرة، لعل أهمها صعوبة الوصول إلى سوق المتنبي بسبب الحواجز وبسبب الفوضى كما يقول القاص سعد رحيم.
ومع تطور وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، والانفتاح على ثقافات جديدة؛ أصبح الشارع يستوعب العشرات من الشباب الذين ينتظمون في مجاميع على "الفيسبوك" تجمعهم اهتمامات مشتركة، كالرسم أو الموسيقى أو التصوير أو العمل كمتطوعين في المنظمات الخيرية أو المنظمات المدنية، ويعد شارع المتنبي مكاناً يعقدون فيه لقاءاتهم ويتواصلون مع المثقفين ويلتقطون الصور التذكارية معهم.
ورغم أن بعض الأدباء ينظر إلى مسألة كثرة الشباب في شارع المتنبي على أنها ظاهرة دخيلة ولا علاقة لها بالثقافة، إلا أن البعض الآخر يرحب بها ويجدها ظاهرة صحية لانصهار الشباب في جو ثقافي يمدهم بأفكار خلاقة أو يدعوهم لتبني أفكار جديدة أو سلوك مختلف، لا سيما أن المتنبي يكاد يكون المكان الوحيد الذي يمكن أن تجتمع فيه النخب بكافة الاختصاصات والأعمار في ظل شبه غياب لأماكن الترفيه أو النوادي الثقافية والاجتماعية في بغداد.
كما أن الشارع لم يعد مكاناً لبيع الكتب وحسب، بل أُنشئت فيه بيوت ثقافية تقدم ندوات في النقد وعروض الكتب وآخر الإصدارات، ومعارض للرسم والكاريكاتير وأخرى للشباب، فضلاً عن المقاهي والصالونات الأدبية، والمكتبات المتخصصة، والاحتفاء بالمبدعين في جلسات تكريمية، والمجالس البغدادية المعنية بالفلكلور.
يقول الناقد السينمائي علاء المفرجي؛ إنه كان يرافق والده إلى شارع المتنبي وهو طفل صغير لاقتناء مستلزمات المدرسة، وكانت تبهره زحمة الشارع وألوان الكتب التي خرجت من المكتبات وافترشت الأرصفة، وعندما دخل عالم الصحافة فإن أول موضوع كتبه كان عن شارع المتنبي، وشيئاً فشيئاً انخرط في عالم الثقافة والسينما، حتى أصبح واحداً من أهم نقاد السينما في العراق، وصار يرتاد الشارع للقاء أصدقائه من النقاد والفنانين والصحافيين، ويتجاذب أطراف الحديث عن أحدث الأفلام والمهرجانات العالمية، فضلاً عن التزود بأحدث الإصدارات.
أما الفنان التشكيلي طالب جبار؛ فيرى أن شارع المتنبي هو الفضاء الأنسب لممارسة الرسم، خاصة بالنسبة للشباب الذين بدؤوا بتأسيس ورش للرسم في الهواء الطلق متفوقين بذلك على الأجيال السابقة بالمحاولة واستثمار الفرص، يقول جبار: "في هذا المكان ينشط الفن التشكيلي وتقام المعارض الفنية على مختلف أنواعها ومدارسها، ويمارس الهواة من الرسامين تجاربهم في فن الرسم والتصميم والأعمال اليدوية".
شارع المتنبي بالنسبة للعراقيين والمثقفين منهم خصوصاً، ليس مجرد مكان للفسحة أو النزهة، بل هو جزء من المشهد الثقافي العراقي وقبلة للمثقفين العراقيين، الذين ربما تتقطع بهم سبل الاتصال أو تمنعهم ظروف الحياة من التواصل، فإن موعداً ثابتاً يجمعهم عند شارع المتنبي في يوم الجمعة، فهذا شاعر عراقي مغترب قادم من كندا، وقد اختار شارع المتنبي لكي يعلن عن وصوله إلى بغداد، دون أن يكلف نفسه عناء الاتصال بأصدقائه، ففي هذا المكان يمكنه أن يرى الجميع من دون موعد، تركناه جالساً وسط مجموعة من أصدقائه في أحد مقاهي شارع المتنبي يشرب الشاي العراقي الذي افتقد حرارته في صقيع كندا، فيما التف الجميع حوله يتحدثون عن جماليات السرد وجماليات المكان، لا سيما وأنهم في المكان البهي من قلب الجمال، في شارع المتنبي.
aXA6IDE4LjIyMS4xMDIuMCA= جزيرة ام اند امز