رواية "الموت عمل شاق" لخالد خليفة: دفن سوريا القديمة
حسين وبلبل وفاطمة، يحملون جثة أبيهم عبد اللطيف سالم في ميكروباص، ويقررون تنفيذ وصية والدهم بدفنه في قريته "العنابية".
حسين وبلبل وفاطمة، يحملون جثة أبيهم عبد اللطيف سالم في ميكروباص، ويقررون تنفيذ وصية والدهم بدفنه في قريته "العنابية". ينطلقون من إحدى ضواحي دمشق نحو أقاصي ريف حلب.
الرواية هي تلك الرحلة الممتدة عبر الجغرافيا السورية، عبر المدن والقرى والبساتين والبادية والسهوب المترامية، يعبرونها بالخوف وتحت الخطر، ويجتازون الحواجز اللامتناهية لقوات النظام ومخابراته، كما للمسلحين المعارضين على أنواعهم، وكذلك حواجز المتشددين الإسلاميين المرهوبي الجانب.
الرحلة الجغرافية هي ذريعة الرواية لرسم المشهد السوري: الموت والخراب والتشرد والعنف وسقوط الإنسان. الرحلة الجغرافية هي أيضًا ذريعة الرواية كي تقوم كل شخصية برحلة داخل ذاتها، بسرد سيرتها واستعادة ذاكرتها، بحثًا عن المعنى أو الهباء الذي غلف حيواتهم.
بلا عناء تقريبًا سنرى في سيرة الأب كناية عن سوريا نصف قرن من أوهام وأحلام سياسية وبراءة فكرية وإيمان ساذج بالعقائد، أودت بسوريا وأهلها إلى جحيم العسف والطغيان والشر اليومي، لسلطة تسحق الأحلام والكرامة البشرية. وسنجد في الابن حسين المثال الفاشل للكائن المسحوق الذي يستسلم لمنطق السلطة وسبلها في النهب والفساد، ويتوهم مجاراتها، فيمعسه جبروتها من غير شفقة.
سنكتشف في سيرة بلبل، مثال المواطن السوري الذي ارتضى الذل والجبن وبالقليل من الطموحات، مستسلمًا لانجرافه في تيار الخضوع والصمت والفقر. وسنرى بالتأكيد في الأخت فاطمة مثال المرأة السورية العادية التي تتوهم في رجل يسترزق من اقتصاد طفيلي ومافياوي، أنه سبيلها إلى السعادة، فتعود مرمية مطلقة إلى بيت أهلها الذاوي والكئيب.
الثورة والموت العميم، وآبار الكراهية العميقة التي انفتحت في النفوس وبين الجماعات، وانتشار الجثث والكلاب التي تنهشها، والخراب الذي يتسيد المشهد وأعمال القتل الجماعي .. كل هذا يكشف ويطهر تاريخ نصف قرن من الخديعة. وبلبل، الذي سيستعيد في نهاية الرواية اسمه "نبيل" بعدما أنجز الرحلة: "رأى في الموت حلًّا نهائيًّا لمعضلة الحياة، الموت الجماعي أحيانًا نوع من الحل. كثيرًا ما تخيل بلبل مجموعات بشرية كاملة تنتحر بطقس جماعي احتجاجًا؛ لأن الحياة أصبحت ملوثة إلى هذه الدرجة". (ص 146).
تتأسس الخطيئة الأصلية لسيرة العائلة، أو بالأحرى السيرة السورية المكتومة والمغلفة بشرنقة من حكايات مشوهة وملتوية، في حادثة شقيقة الأب. ليلى الجميلة التي انتحرت قبل أربعين عامًا في يوم عرسها، صعدت إلى سطح منزلها سكبت زجاجة الكاز وأشعلت النار في جسدها، يوم أرادوا تزويجها بالرجل الذي لا تحبه.
ستتحول هذه المأساة القديمة، إلى جرح لا يندمل في ضمير الأب الذي تخاذل في إنقاذ أخته من الزواج المدبر. هل هي الكناية عن مصير سوريا التي "تزوجها" الأسد منذ أربعين عامًا رغمًا عنها؟
بطبيعة الحال، الرواية ليست تلك الحكايات ولا أخبار الرحلة الرهيبة، هي في شجاعة خالد خليفة ومكره في الكتابة المقتضبة، في استثماره الذكي للتحولات النفسية الموازية لتحول الأحداث الخارجية، بما يذكرنا بعنف كتابات وليم فوكنر وقسوته الفاضحة التي تسبب القشعريرة. تقول لميا، الحبيبة القديمة للأب، والتي ستتزوجه بعد ترملها وترمله واستشهاد ابنيها الثائرين، والتقائها به في يوميات النشاط الثوري: "كل ما حدث كان يجب حدوثه، سيرة طبيعية للوهم الذي عاشه الجميع، الحياة في أزمنة العار والصمت الذي عاشوه سنوات طويلة يجري الآن دفع ثمنهما، الجميع سيدفعون الثمن، الجلاد والضحية، تصحيح الحياة المنافقة قد يكون ثقيلًا إلا أنه لا بد منه في النهاية".
يمكن اعتبار هذا التصريح، بيان خليفة الشخصي. وأبعد من ذلك، الرواية في أسلوبها ومضمونها، هي إضافة نوعية لما باتت عليه الكتابة السورية كلها، بامتيازها الجديد، بعد اندلاع الثورة. فالكتابة القائمة على الكتمان والتورية والتمويه والتلميح والخزعبلات الأسلوبية والتهرب من الوضوح والفذلكة المفتعلة والشعرية المصطنعة .. كلها انتهت بعد سقوط جدار الخوف، مع التمرد التام على السلطة وعلى الرقابة المتغلغلة في النفوس، وابتدأت لغة جديدة، وقحة وعنيفة وبسيطة وواضحة ومباشرة، لغة انفجرت بغتة بنثر شبه خال من الأدب، كتقرير صحفي خرافي ولا نهائي.
واندفعت الكتابة السورية إلى البوح وإلى تدوين السير الذاتية، كوسيلة لتوكيد الهوية الفردية لكل إنسان سوري، وعلى الضد من القطيعية التي عاشوها مرغمين تحت سقف "البعث"، الثقيل الوطأة على النفوس والصدور.
آلاف التدوينات والسير الذاتية والكتابات الحرة والروايات والنصوص الشخصية وكتب المذكرات يكتبها السوريون اليوم، كفعل "اعترافي" يطهر ذاكرتهم ويسطر تاريخهم الجديد. وستكون كل هذه الكتابات، ومنها أساسًا رواية "الموت عمل شاق"، الضمير الأدبي لسوريا المستقبل.
"الموت عمل شاق" (دار نوفل – هاشيت أنطوان، بيروت 2016) رواية الزمن السوري الراهن، وبانوراميتها الشاملة لكل الظواهر التي رأيناها أو سمعنا عنها في السنوات الخمس الماضية، من رعب ومفارقات مأسوية وانحطاط البشر ونبلهم وخوفهم وشجاعتهم وخستهم وشهامتهم، تجعلها واحدة من العلامات البارزة لما سيقال عنه مستقبلًا، "أدب الحرب" الذي غير وجهة الكتابة السورية برمتها.
aXA6IDE4LjIxOC4yNDUuMTc5IA== جزيرة ام اند امز