الرجل كان هو من يريد طرح الأسئلة حول ما يدور في مصر ومستقبلها بعد سقوط مبارك ووضْع الإخوان وغيرها، لكن كان هناك سؤال خاص أخذ يلحّ عليه
كنت أجلس في حجرة الانتظار بشبكة "فوكس نيوز" في نيويورك قبل بدء مقابلة مع المذيع المعروف شيبارد سميث.
التوقيت كانت له أهمية خاصة يوم الحادي عشر من فبراير بعد ساعات من إعلان تنحِّي الرئيس الأسبق حسني مبارك.
أثناء الانتظار جاء عضو الكونجرس بيتر كينج الذي كان وقتها رئيسا للجنة الأمن الداخلي وعضوا بلجنة الاستخبارات بمجلس النواب. تصوّرت أني سأمارس مهنتي التي اعتدت عليها بطرح الأسئلة وما أكثرها في هذه المناسبة.
لكن الرجل كان هو من يريد طرح الأسئلة حول ما يدور في مصر والمنطقة ومستقبلها بعد سقوط مبارك ووضْع الإخوان وغيرها، لكن كان هناك سؤال خاص أخذ يلحّ عليه ويكرره بأكثر من صورة: كيف فات على وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إي) أن تتنبأ بما حدث وتستعد له؟ وإلى أي حد يمكننا أن نلومها على هذا الخطأ؟
في إجابتي عن هذا السؤال تحديدا ذكرت له بعض فقرات من مقالٍ كتبته قبلها بحوالي عشرة أشهر في صحيفة "المصري اليوم" بعنوان: "إنهم يشبهون الفيس بوك"، توقعت فيه أحداثاً مشابهة وأنها ستعتمد أساسا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن ليس هذا موضوعنا الآن.
فما أريده باستعادة هذا الحوار هو توضيح حقيقة أصبحت تغيب عن الكثيرين أو يتم تغييبها وهي أن أحداث الثورة المصرية ومن قبلها التونسية كانت مفاجأة للعديد من العواصم العالمية وأجهزة استخباراتها. صحيح أنها كانت ترصد الكثير من المؤشرات على التذمر العام، لكنها لم تتوقع مسيرة الأحداث وتطوراتها فضلا عن أن تكون هي نفسها من يحركها.
لكن هذا تحديدا هو ما أخذ يتردد بعدها للتأكيد على أن ثورة يناير لم تكن إلا مؤامرة خارجية شاركت فيها أجهزة استخبارات عالمية من أجل خلق الفوضى وإسقاط النظام في مصر تمهيدا لإسقاط الدولة وإدخال المنطقة في دوامة عنف وعدم استقرار.
وقد تم تكريس العديد من الأبواق الإعلامية على مدى السنوات الماضية لترديد هذا المعنى في إطار عملية مخططة ومنظمة لتشويه الثورة ومن شاركوا فيها.
ورغم أن دستور البلاد ورئيسها يؤكدان على احترام تلك الثورة فإن تلك الأبواق لا تتردد في التصريح بعدائها لها، بل وصل الأمر بأحد أعضاء مجلس النواب الجديد للإعلان عن عدم اعترافه بديباجة الدستور التي تؤكد على أن يناير ثورة.
اللافت للنظر أن كثيرا من تلك الأصوات كانت تسبّح بحمد الثورة وشهدائها عندما كانت هي الموضة بعد تنحِّي مبارك. وهذا العضو نفسه سبق له الظهور على شاشات التليفزيون مؤكدا وجوده في ميدان التحرير منذ اليوم الأول للثورة وعلى عينه ضمادة بزعم إصابته، رغم أنه لم يره أحد في الميدان طوال أيامها الثمانية عشر.
لكن بصرف النظر عن مدى مصداقية هؤلاء فإن الواضح أن "حديث المؤامرة" أصبحت له أسس وترسخت القناعة به لدى الكثيرين من كثرة ما تردد في وسائل الإعلام.
ولم يقتصر الأمر على تكرار الكلام عن أمريكا واستهدافها لمصر ونظامها رغم أن ذلك النظام كان متجاوبا مع السياسات الأمريكية في كل أهدافها، لكن كان هناك "إبداع" خاص في اختلاق الأدلة كما لو كانت قضية مخدرات يتم فيها تلبيس المتهم بوضع (قرش حشيش) في جيبه.
كان أبرز تلك الأدلة الوهمية كلاما قال هؤلاء (الإعلاميون) إنهم نقلوه عن كتاب لوزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت هيلاري كلينتون تتحدث فيه -حسب زعمهم- عن محاولات واشنطن لإسقاط مصر وتفكيكها تمهيدا لإسقاط المنطقة بأكملها، لكن مصر وجيشها نجحوا في إفشال تلك المؤامرة.
المدهش أن هذا الكلام الملفق (والذي يعرف كل من قرأ الكتاب أن شيئا من ذلك لم يرد فيه) أخذ ينتشر من القنوات التليفزيونية إلى الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي دون أن يسأل أحد نفسه كيف يمكن لهيلاري كلينتون أن تفضح بلادها بهذا الشكل حتى لو كانت واشنطن سعت بالفعل لإسقاط النظام وتفكيك مصر.
لكنها مرحلة يشوبها الكثير من الصخب والهرتلة، البقاء فيها للأعلى صوتا وصراخا بصرف النظر عن مضمون ما يقول، وإلا كيف استمر (إعلامي) على شاشات التليفزيون بعد فبركته لمعركة وهمية مع الأسطول السادس الأمريكي تم فيها اعتقال قائد الأسطول؟. كلام يؤكد أن كثيرا من هؤلاء يحتاجون للكشف على قواهم العقلية قبل جلوسهم أمام الكاميرات، إلا أن هذه الترهات، بصرف النظر عما فيها من مبالغات مضحكة، كانت مقبولة لأنها تصب في النهاية في حديث المؤامرة وتؤكد عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فالكون كله -وأمريكا في صدارته- يتآمر على مصر، وثورة يناير جاءت في قلب هذه المؤامرة وبالتالي فكل من شارك فيها أو تعاطف معها هو جزء من هذه المؤامرة.
وإن كانت الملايين شاركت فيها دون علم فإن قادتها وناشطيها كانوا مجرد أدوات تنفذ أدوارها المرسومة في الخارج، فهم عملاء وخونة. وهكذا انتشرت التسجيلات التليفونية المسجلة بصورة غير قانونية لهؤلاء الناشطين لتذاع في الفضائيات في سابقة لا أظن لها مثيلا في جمهوريات الموز، مع عمل مونتاج واضح لها وتلبيسها معانيَ غير موجودة في الكلام المذاع.
القضية الآن ليست في عمليات التجهيل والتعمية رغم فداحتها، وليست حتى في تشويه ثورة شعبية حقيقية على نظام مبارك، فالهدف من كل ذلك واضح ومفهوم لإجهاض أي محاولة جادة للبناء عليها أو الإصلاح ضد أصحاب النفوذ والمصالح، لكن الخطر الحقيقي من هذا الكلام هو أنه يضيّع الفرصة للاستفادة من متغيرات هذه الثورة، والانطلاق بها من مرحلة "الفوضى" التي لا بد منها في مثل هذه الحالات، إلى "الطفرة" بحيث تكون نقطة تحول لخروج مصر من كبوتها سياسيا واقتصاديا. الخطر الآخر هو أن هذه الأبواق محسوبة بصورة أو بأخرى على النظام الحالي في مصر، وبالتالي فهي تضعه -حتى على غير رغبة منه- في موقف المناهض لثورة يناير، بما يزيد من مشاكله مع الشباب الذي يمثل الأمل الحقيقي للتغيير الإيجابي بعيدا عن العنف والإرهاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة