لم تبدأ ثورة 25 يناير المجيدة التى احتفلنا بذكراها الخامسة مؤخرا، وإنما انطلقت إرهاصاتها الأولى قبلها بسنوات على أيدى مجموعة
لم تبدأ ثورة 25 يناير المجيدة التى احتفلنا بذكراها الخامسة مؤخرا، وإنما انطلقت إرهاصاتها الأولى قبلها بسنوات على أيدى مجموعة من المفكرين والناشطين وعلى رأسهم المفكر الكبير وابن الأهرام الراحل الدكتور محمد السيد سعيد, الذى يعد الأب الروحى للثورة, عندما ألقى حجرا مبكرا وسط المياه الراكدة، وطالب مبارك فى عز قوته والطوق الحديدى لبطانته, بتحقيق إصلاحات سياسية ودستورية تنقل مصر من ديمقراطية شكلية إلى ديمقراطية حقيقية تحترم الحقوق والحريات وتسمح للأحزاب والنقابات والإعلام والمؤسسات بلعب دور حقيقى وفاعل وتحقيق التوازن بين السلطات.
ورغم أن البعض اتهموه بالتطرف وسخروا منه, إلا أن جهوده وأفكاره، سواء فى تأسيسه للحركة الوطنية للتغيير (كفاية) فى عام 2004 وقبلها دفاعه عن عمال مصنع الحديد والصلب فى 1989 وتعرضه للسجن والتعذيب, وكتاباته الصحفية وإسهاماته الفكرية, كانت البيئة التى نبتت وترعرعت فيها بذرة التغيير حتى ازدهرت شجرتها فى ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعد وفاته بعامين.
سعيد كان ظاهرة فريدة فى ذاتها مزج الكل فى واحد, فكان فيلسوفا ومفكرا وعالما وباحثا وكاتبا وصحفيا وناشطا حقوقيا مدافعا عن الحريات والحقوق, ووطنيا مخلصا, وإنسانيا شغله الهم الإنسانى والمصرى والعربى, وحالما بعالم ربما يبدو مثاليا فى ظل واقعية صادمة, تحكمها المصالح والأهواء ولعبة الحسابات والتوازنات, لكن سعيد بمشروعه الإصلاحى والوطنى والإنسانى كان البوصلة المضيئة وسط الظلام الحالك.
تمرد سعيد على كل الثنائيات التقليدية الجامدة, ومنها علاقة المفكر بالسلطة, فلم يدر فى فلك السلطة كغيره أو يسخر أفكاره وعلمه للحصول على منافع أو مصالح وقتية ضيقة, وكان بإمكانه أن تضعه فى مراتب عليا, فلم تغريه شهوة المال والمنصب, وإنما واجه السلطة بصدق وطنى يبغى الإصلاح والتغيير نحو مستقبل أفضل لمصر وحياة أفضل يستحقها الشعب المصرى, ولذلك انحاز للدفاع عن المهمشين والمقهورين والضعفاء والمضطهدين, فساهم فى تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان, لتكون منبرا لأصوات المظلومين. وسخر عقله لإنتاج الأفكار لتغيير الواقع المؤلم وتجاوزت أفكاره عصره وواقعه إلى المستقبل.
وكانت كتاباته فى الأهرام أو فى صحيفة البديل التى اسسها عام 2007 بمثابة مدرسة ونظرية فى كيفية التغيير والإصلاح حيث تخاطب الواقع وتقدم الحلول والتصورات, ومنها مقاله الشهير عن عصرنة الشرطة الذى نشر فى الأهرام عام 1998, وسارت أفكاره جنبا إلى جنب مع حركته على الأرض فى الدفاع عن الحريات والحقوق ودفع ثمن نضاله وإخلاصه مرات ومرات ومنها خذلان الدولة له فى مرضه, ولم يتاجر يوما بنضاله ليصنع بطولات زائفة كالآخرين ولذلك احترمه الجميع بمن فيهم المخالفون له.
قدم الراحل نموذجا لما ينبغى أن يكون عليه المفكر الحقيقى, فكان مولدا للأفكار العظيمة والبناءة الخالصة بعيدا عن الأهواء أو المصالح, ولم يكن أسيرا لفكره اليسارى أو لأيديولوجية جامدة, بل استوعب الاتجاهات والتناقضات فى بوتقة واحدة, فكما كان يصف نفسه دائما باليسارى بين الليبراليين وليبرالى بين اليساريين, فكان يضرب المثل فى أن الإيديولوجية والأفكار مهما كانت ليست غاية فى ذاتها, وإنما قيمتها فى مرونتها وما تحدثه من تغيير على الأرض ونقل حياة الإنسان والمجتمع إلى الأفضل, لذلك كان علمه وحلمه يستوعب الجميع ويخاطب العقل والمستقبل، ويستهدف تغييرا حقيقيا للواقع.
وكان يرى أن الديمقراطية الحقيقية القائمة على العدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات ومبدأ المواطنة هى العلاج الفعال للمسألة المصرية والعربية, ولمشكلات التخلف والاستبداد والاضطهاد والتمييز ضد الأقليات وانتشار التطرف والإرهاب, وهى الدستور الذى يؤسس لعلاقة صحية وسليمة بين الحاكم والمحكوم وبين المحكومين وبعضهم البعض, وينشيء بيئة التقدم والازدهار والعدالة الاجتماعية ويحقق الاندماج الوطنى الذى يجمع كل المصريين على هدف واحد ومستقبل أفضل, ولذلك فإننا نحتاج لأفكار محمد السيد سعيد ونحن نعبر بمصر إلى بر الأمان.
ظل سعيد منذ تخرجه عام 1973 في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومشاركته فى حرب أكتوبر 1973 وعمله وابداعاته بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتجية وحصوله على الدكتوراه من الولايات المتحدة, ومشاركته فى إنشاء المنظمات الحقوقية وحتى وفاته عام 2009 بعد صراع طويل مع المرض اللعين, مناضلا حقيقيا قدم مسيرة عطاء زاخرة بعشرات الكتب والأوراق البحثية وآلاف المقالات فى الأهرام وغيرها, وتجاوزت اهتماماته الهم المصرى إلى الهم العربى والانسانى العالمي.
كل من تعامل مع سعيد من زملائه وتلاميذه لامس بصدق إنسانيته وبساطته وتواضعه ونقاءه الذى جعله عملاقا حقيقيا فى الفكر والعطاء والإخلاص والوطنية, ورغم أن جسده فارق الحياة إلا أن روحه وأفكاره وعلمه وإنسانيته ومدرسته ومشروعه الحضارى والإصلاحى سيظل خالدا وسيظل تراثه الفكرى الثرى مرجعا ونبراسا هاديا لكل من يبحث عن حياة أفضل, وسينصفه التاريخ ويسجل بأن هناك رجالا ساهموا فى لحظات التحول الكبرى فى تاريخ مصر وكان منهم هذا الرجل, والذى وضع بذرة التغيير والإصلاح وكان الأب الروحى لثورة 25 يناير العظيمة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة