وقد واكب ذلك كله ظاهرة جديدة على المنطقة العربية، وهي اضطهاد الأقليات غير المسلمة، بل وظهور بوادر للتطهير المستند إلى اعتبارات دينية
لا يختلف اثنان في العالم العربي اليوم على أن مستقبل المنطقة محوط بالمخاوف والرعب، وأن الحرائق المشتعلة في أكثر من زاوية وركن من العالم العربي وفي محيطه توشك أن تقترب من براميل البارود المنبثة في جوانبها لتحرق الجميع في أتونها، وأن هذا هو الوقت الذي يجب أن يتنادى فيه العقلاء إلى إطفاء النيران لا صب الزيت فوقها. وهذا هو، تحديداً، الوقت الذي اختاره يوسف القرضاوي ليُشبع رغبته في التخريب وفي المضي بالعالم العربي والإسلامي إلى هاوية مهلكة، بدل أن يثوب إلى رشده وقد بلغ من العمر أرذله.
خرج علينا يوسف القرضاوي من جديد ليذكي نار الفتنة في أكثر بؤرها التهاباً، مطلقاً لسانه بالكراهية ليستفز مشاعر السنة والشيعة معاً، وليهيئ الأرض لجولة أخرى من الدم وأكداس من الجثث والأشلاء وملايين من النازحين والمشردين والأرامل والأيتام العاجزين يستجدون الخبز والمأوى. وفي سلوك يندر أن نجده إلا بين أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين»، يقول إنه أخطأ «حينما ظننت خيراً بإمكان التقريب بين السنة والشيعة»، وأنه الآن لا يرى فيهم إلا «أعداء كارهين حاقدين». فإذا كان صادقاً في ما يعتقد فماذا عمن غرّتهم دعواه الأولى وصدقوه فيها؟ ومن يضمن أن هذا الرجل الحزبي المؤدلج إنما يريد وجه الله بما يقوله اليوم؟ وأن تصريحه هذا ليس مجرد مناورة سياسية لمصلحة تنظيمه الذي يعاني الانهيار والتشقق، وهل سيخرج علينا بعد شهور أو سنوات ليقول إنه أخطأ مرة ثالثة عندما تقتضي مصلحة «الإخوان» التقارب مع إيران مرة أخرى، أو التهجم على دول الخليج العربية كما فعلوا في بدايات «الربيع العربي»؟ وكيف يجرؤ أن يوحي إلى من يصدقون كلامه بأن رأيه الذي يتغير بداعي المصلحة الحزبية لجماعة «الإخوان» إنما يستند إلى دين الله وشرعه الذي لا يقبل التبديل والتغيير؟
الحقيقة أن الرجل لم يكن صادقاً في الأولى عندما دعا إلى التقارب مع الشيعة، ولا صادقاً في الثانية عندما حرض على كراهيتهم، وهو في الأولى والثانية كان ينطلق من مصالح وحسابات سياسية تخدم جماعة «الإخوان» ومشروعها للوصول إلى الحكم بأي طريقة كانت ضمن منهج «أستاذية العالم» الذي يتبناه التنظيم. ولم تكن هذه الصفحة إلا واحدة من صفحات تنضح بالخزي والعار، تُبدِّل فيها الجماعة ومفتيها القرضاوي، موقفها بحسب اتجاه الريح وتغير تحالفاتها بلا مبدأ أو ضمير، وهي في كل الحالات تفتئت على الله - عز وجل - وشريعته الغراء، وتُسبغ على مخازيها رداءً من دين الله، وهو منهم ومما يفعلون براء، ومن الشريعة، وهم أعدى أعدائها وأكثر من يسيء إليها. لا يختلفون في ذلك عن مشروع إيران الصفوي، الذي يؤجج نار الفتنة بدوره ويعمق التطرف الديني والايديولوجي والطائفية السياسية، وما يقترن بها من انتشار العنف والإرهاب في عدد من أقطار المنطقة، وتعرض صورة الإسلام للتشويه، وتوسع «الإسلاموفوبيا» والتمييز ضد الأقليات المسلمة واضطهادها خارج العالم الإسلامي.
لقد اكتسبت الأفكار المتطرفة زخماً متصاعداً عقب ما يُعرف بـ «الربيع العربي»، وصعود بعض الجماعات الدينية إلى قمة السلطة، وتحالفها مع جماعات وأحزاب سياسية متطرفة، ثم فشلها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع بسبب سعيها إلى احتكار السلطة والدولة وتشكيلها وفقاً لرؤيتها، وانفصالها عن شركاء الوطن واستعلائها عليهم، وتسويقها الأماني الكِذَاب والأوهام السراب لشعوبها. من دون الحديث عن تمدد تنظيم «داعش» بأثوابه الجاهلية، ونشره الإرهاب والتخويف في أرجاء المنطقة، وترويجه صورة قاتمة عن الإسلام وأهله، كأنه لم يكن يكفي العالم الإسلامي أنه ابتلي من قبل بتنظيم «القاعدة» الإرهابي وفروعه المنتشرة في أنحاء عدة من أقطاره.
وقد واكب ذلك كله ظاهرة أخرى جديدة على المنطقة العربية، وهي اضطهاد الأقليات غير المسلمة، بل وظهور بوادر للتطهير المستند إلى اعتبارات دينية. فقد استقوت الحركات المتطرفة، وأعطت لنفسها حق إصدار أحكام تنسبها إلى الإسلام، وقامت بممارسات تضررت منها كل المجتمعات، وعرّضت المسلمين إلى الكراهية والافتراء، والأقليات الدينية إلى الترويع والقتل في المنطقة.
في مواجهة ذلك كله، يقدم إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي بريق أمل أو شعاع نور لأمتنا العربية والإسلامية والعالم من حولها. وقد انبثق الإعلان الذي يُعد «وثيقة حقوق إسلامية»، عن مؤتمر مراكش الدولي حول حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية الذي نظمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية، بالمشاركة مع وزارة الأوقاف المغربية. وتنبع قيمة هذا المؤتمر والإعلان الذي صدر عنه من مشاركة أكثر من 300 عالم ومفكر إسلامي يمثلون مختلف المذاهب والتوجهات، وينتمون إلى أكثر من 120 بلداً، فضلاً على ممثلي الأديان الأخرى، داخل العالم الإسلامي وخارجه، والهيئات والمنظمات الإسلامية والدولية.
إن إحياء مبدأ المساواة المطلقة بين جميع البشر، بقطع النظر عن معتقداتهم الدينية أو تفسيراتهم لها، هو مبدأ أصيل في الفكر والحضارة الإسلامية، فـ «كلكم لآدم» اخوة في الإنسانية. وإذا كانت الدعوة إلى المساواة قد ظهرت في الأديان والفلسفات السابقة، فإن الحضارة الإسلامية أصلّت لها عقدياً، وعززتها فكرياً، وجعلتها واقعاً يمشي على الأرض.
إننا في حاجة إلى مثل هذه الخطوات الجادة لتأصيل مفهوم المواطنة لاستيعاب كل الأقليات في جميع الدول الإسلامية، وتحقيق المواطنة التعاقدية التي تقوم على عقد اجتماعي جديد يحدد للمواطنين حقوقهم وواجباتهم بدقة، وتوطيد أواصر التعايش المشترك، وهو أساس قيام الدول ونهضتها. ولا شك في أن ترسيخ مفهوم المواطنة من الخطوات المهمة جداً لمواجهة التطرف والإرهاب اللذين باتا يخصمان كل يوم من رصيد ثقافة المحبة والتسامح والاعتدال التي نادى بها الإسلام.
لقد آن الأوان كي نتمثل جميعاً قيم الإسلام السمحة، وفي طليعة ذلك احترام الأقليات، وتأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية، والتصدي لكل ما يزدري الأديان وينبذ خطاب الكراهية والعنصرية، ويتبرأ ممن يوظفون الدين في تبرير النيل من الأقليات في المجتمعات الإسلامية.
إن الأزمة الراهنة التي تعيشها الثقافة الإسلامية الوسطية في هذه الأيام العصيبة تحتاج إلى خطوات عملية لتجديد الخطاب الديني. وقد خطا مؤتمر مراكش خطوة مهمة في هذا السياق، حين دعا المؤسسات العلمية إلى القيام بمراجعات شجاعة للمناهج الدراسية للتصدي للثقافة المأزومة التي تغذي الفتن والحروب. ولعلنا لاحظنا عبر السنوات الماضية أن الخلل في تلك المناهج كان عاملاً مهماً من عوامل التطرف والانحراف لدى كثير من المراهقين في عالمينا العربي والإسلامي.
لقد اعتبر إعلان مراكش صحيفة المدينة التي أصدرها الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لتكون دستوراً لمجتمع متعدد الأعراق والمعتقدات، الأساس المرجعي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم العربي. وتجسد هذه الوثيقة القيم الإسلامية الكبرى، وفي مقدمها العدل، الذي يعد القيمة الإسلامية العليا أو القيمة المظلة التي تجب ما عداها، والمساواة على أساس إنساني، والتعددية التي زخرت بها المجتمعات الإسلامية على مدار تاريخها الطويل.
إن هذه الدعوات ليست نسجاً من الخيال، ولا هي مستحيلة التحقق، فنموذج التسامح الإنساني الذي أرسته وثيقة المدينة، وأصّلته الحضارة الإسلامية، يقلل احتمالات الصراع أو الصدام بين البشر أو الدول بسبب الاختلافات الثقافية، ولا سيما الدينية منها. وبمعنى آخر، يُقدم هذا النموذج تفنيداً نظرياً وعملياً لأطروحة صدام الحضارات، التي قال بها صامويل هنتنغتون في تسعينات القرن الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة