انتفاضة يناير لم تكن صنيعة أشخاص، وهي لم تكتسب مسمى الثورة أو الانتفاضة أو الحراك إلا بعد أن دلفت إلى مجراها جموع شعبية جارفة
يعصف بالأوساط السياسية والفكرية والأمنية المصرية جدل حامي الوطيس في شأن ماهية انتفاضة يناير 2011 وجدواها، وما إذ كانت ثورة شعبية تنشد تغيير أحوال البلاد والعباد نحو الأفضل، أم مؤامرة خارجية تتوخى إسقاط الدولة الوطنية وتفتيتها وتفكيك جيشها النظامي.
ويمكن، في هذا الشأن، الوقوف عند عدد من الملاحظات.
أولاً، أن انتفاضة يناير لم تكن صنيعة أشخاص أو نتاج تحركات فئة بعينها، وهي لم تكتسب مسمى الثورة أو الانتفاضة أو الحراك إلا بعد أن دلفت إلى مجراها جموع شعبية جارفة.
ومن ثم، يغدو من الخطأ اختزال ذلك الحراك في أسماء أو تنظيمات محددة دون سواها، وإن سعت هي بذاتها إلى تكريس هذا الأمر، توخياً للشهرة أو بحثاً عن المجد أو توظيف ذلك الادعاء الزائف كمسوغ للقفز إلى السلطة أو الإتجار بالغضبة الشعبية. ويصح هذا على جنوح جهات أو دوائر ما إلى الربط بين الحراك الثوري وأي من هذه الأسماء أو التنظيمات، توطئة لتشويهها أو النيل منها، مستغلة ما يشين تلك الأسماء أو التنظيمات والحركات، من قبيل صلاتها المريبة أو المشبوهة بدوائر خارجية، بما يمكن أن يوفر غطاءً سياسياً أو أخلاقياً لأي افتئات على تلك الانتفاضة ووصمها بالمؤامرة.
ثانياً، كانت مصر بحق قبل يناير 2011، تغط في أوضاع وأحوال في غاية السوء والتردي، إلى الحد الذي يبدد أي شك في توافر ما يطلق عليه في علم الاجتماع السياسي «الحالة الثورية» التي تطوي بين ثناياها الأسباب والدوافع التي تغذي غضب الجماهير واستياءها ونقمتها على النظام وتحضّها على التفكير الجدي في إسقاطه وإقامة نظام بديل أكثر نجاعة، في ظل استحالة إصلاح أدائه أو استعصاء تغييره من خلال الأقنية السياسية الشرعية كالانتخابات النزيهة والتنافسية.
وبوجود «الحالة الثورية» يتوفر الشطر الأول لعملية «الثورة» التي تتأتى بدورها وتكتمل مع تحوله إلى ما يعرف في أدبيات الثورات بـ «الفعل الثوري»، وهو الشطر الثاني من هذه العملية المعقدة، والذي لا يتم إلا ببلوغه أو التحول إليه.
وطيلة سنوات من حكم مبارك بقيت مصر ترزح في أغلال تلك «الحالة الثورية»، وتفتقد في الوقت ذاته العوامل المساعدة على تحويل تلك الحالة إلى «فعل ثوري»، بمعنى تحرك الجماهير الغاضبة، وراء قيادة واعية وحصيفة تمضي وفق برنامج عمل متكامل ومتماسك، لإسقاط النظام القائم وبناء نظام أفضل.
وسواء جاء ذلك التحول من تلك «الحالة الثورية» إلى «الفعل الثوري» استجابة لنداء الداخل وتماشياً مع رغبة شعبية ملحة في التغيير ونفض غبار الفشل ووقف مسلسل تراجع البلاد وتدهور أوضاعها، فإن الثورة، بالمعنى الإجرائي، تكون قد وقعت بالفعل، حتى وإن هرعت دوائر أو جهات خارجية لاختراق صفوفها في محاولة لإيجاد موطئ قدم لها ضمن تركيبة النظام الجديد البازغ في الأفق على خلفية الثورة، بما يتيح لها الاحتفاظ في نهاية المطاف بمصالحها داخل البلد.
هكذا، بدأ الحراك الثوري في يناير كتحرك شعبي وطني أقرب إلى الثورة الشعبية، غير أنه وقع في إسار غياب القيادة والافتقاد للبرنامج المتكامل أو الرؤية الشاملة، ما جعله فريسة سهلة للصوص الثورات والانتفاضات الشعبية، إذ سرعان ما اختطف من جانب تنظيمات داخلية مؤدلجة، أكثر تنظيماً وخبرة وجاهزية، تلاقت تطلعاتها مع مخططات جهات خارجية، كانت تتربص بالثورة بغية توجيه دفتها وتوظيفها بما يخدم مصالحها، مستغلة حالة الفراغ القيادي والبرامجي الذي خيَّم عليها.
وما إن هبت الجماهير لتدارك الموقف وتصحيح المسار الثوري وإصلاح اعوجاجه في حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) 2013، بدعم من القوات المسلحة، حتى وجدت الثورة المضادة المتربصة بالداخل ضالتها، حيث انضوت تحت لواء الموجة الثورية التصحيحية، متخذة منها مظلة لتصفية حساباتها مع الحراك الثوري عبر محاصرته وتقويضه، توسلاً للعودة بالبلاد إلى ما كانت عليه قبل اندلاع ذلك الحراك.
وبناء عليه، بدا الحراك الثوري المصري المتعثر الذي اندلع قبل سنوات خمس، كما لو كان ثورة شعبية غير مكتملة، تعرضت للاختطاف من الداخل تارة، كما لم تسلم من الاختراق الخارجي تارة أخرى، ثم ما لبثت أن حظيت بموجة ثورية تصحيحية تارة ثالثة، لكنها تبقى حتى الآن، مشروعاً جاداً لثورة شعبية منقوصة، ما زالت في أمس الحاجة لاستعادة ألقها السياسي وزخمها الجماهيري كي يتسنى لها استكمال مسيرتها الإصلاحية التحديثية.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة