بيروت "الظالمة" تتذكر الكاتب عصام محفوظ
استفاقة مفاجئة من صفحات ثقافية بيروتية حصلت الأسبوع الماضي عندما قررت تذكر الكاتب المسرحي والشاعر عصام محفوظ الذي مات وحيدًا.
استفاقة مفاجئة من الصفحات الثقافية البيروتية حصلت الأسبوع الماضي عندما قررت تذكر الكاتب المسرحي والشاعر عصام محفوظ الذي مات وحيدًا ومتروكًا ومنسيًّا.
وأقام، يوم الأربعاء الماضي، "برنامج أنيس المقدسي للآداب" (الجامعة الأمريكية في بيروت)، بالتعاون مع "مسرح المدينة"، لقاءً خاصًّا حول "عصام محفوظ بين لغة الشعر ولغة المسرح"، هو لقاء تكريمي للراحل (1939 – 2006): كلمات فيه وعنه، وقراءات لقصائده، واسكتشات مشهدية مقتبسة من نصوصه المسرحية، قدمها رفيق علي أحمد ونضال الأشقر.
قبل 10 سنوات من وفاته، أي في عام 1996، أُجبر محفوظ على ترك وظيفته في جريدة "النهار" التي خدمها لأكثر من 30 عامًا، كان الأمر أشبه بالطرد، والذين عملوا على التخلص منه، هم بعض الذين تذكروه اليوم في صفحاتهم الثقافية، ربما الشعور بالذنب هو أحد دوافع إحياء ذكراه وتكريمه؛ فحادثة "المؤامرة" الثقافية الشهيرة، التي أطاحت الجسم التحريري لصفحة "النهار" الثقافية، الشاعر شوقي أبي شقرا، والناقد الأهم في بيروت نزيه خاطر، ومحفوظ، لا تزال وقائعها حاضرة في الأذهان، ولا يزال معظم مثقفي بيروت، يرون في تلك الحادثة العلامة الأساسية على بداية انهيار مستوى الصحيفة، التي كانت تمسك بلغة الثقافة ومزاجها لعقود طويلة.
في أحد لقاءاتي مع الشاعر الراحل محمد الماغوط، قال لي: إن عصام محفوظ أسرَّ له بأن (الرئيس الأمريكي) جيمي كارتر وأنسي الحاج يتآمران عليه، بدا أن وسواس محفوظ وشعوره بالاضطهاد قد وصل ذروته، ما فاقم من عزلته واضطرابه، فوقع في المرض والعجز لسنوات عدة قبل وفاته.
في عام 1989 التقيت به في "فندق الشام" بدمشق، كواحد من نجوم مهرجان دمشق المسرحي، كان حينها زمن سعد الله ونوس وفواز الساجر والطيب الصديقي ويعقوب الشدراوي وروجيه عساف وعصام محفوظ ونزيه خاطر ومحمد إدريس .. زمن مسرح عربي طليعي بوجه حديث وتجريبي، لا يتردد في نبش اللقى التراثية، خصوصًا مع ونوس والصديقي، كان المسرح معهم يتحرر من الاقتباس ومن معجمية الأدب، ومع هذا الجيل اكتسب الفن المسرحي هويته العربية الخاصة، في اللغة والمعالجة والرؤية والإخراج والمضمون.
في هذا السياق، كان إسهام محفوظ رياديًّا؛ فهو أول كاتب أصيل في المسرح اللبناني الحديث، بمعنى الاحتراف والتأليف بعيدًا عن النقل والترجمة والاقتباس، كان هو أول من اكتسب صفة "كاتب مسرحي" بالتخصص، هو صاحب البيان المسرحي الحديث رقم واحد، الذي نشره في مقدمة مسرحيته الأولى "الزنزلخت" (1964)، ونشرها عام 1969، بعد أن عُرضت عام 1968 بمشاركة أبرز ممثلي تلك الحقبة: ريمونجبارة، مادونا غازي، نبيه أبو الحسن، فيليب عقيقي، وإخراج بيرج ڤازليان.
أهمية مساهمة عصام محفوظ في تطوير المسرح اللبناني، أتت من خياره في كتابة مسرحياته بلغة هجينة توحي أنها فصحى، لكنها من صميم اللغة المحكية اللبنانية، مترجمًا بذلك دعوته الجريئة حينها إلى لغة مسرحية طالعة من لغة الحياة اليومية بدلًا من أن تأتي من لغة الكتب، وهذا من صميم رؤيته إلى ضرورة ابتداع فن كتابة مسرحية متمايزة تمامًا عن فنون الكتابة الأدبية وانفصالًا عنها، بما يخدم الفرجة والمشهدية وحيوية التمثيل والتعبير، بل هي شرط من شروط تطوير اللغة المشهدية، بما هي حال درامية وحركة وتجسيد.
كان نجاح عروض "الزنزلخت" حافزًا له وتكريسًا لاقتراحه التحديثي في المسرح اللبناني، في كتب "الديكتاتور"، التي كانت نقدًا لاذعًا ومبكرًا لآلية إنتاج السلطة في العالم العربي، القائمة على الانقلابات والقمع وشعارات المستبد العادل، وأتبعها بمسرحية "سعدون ملكًا".
كانت صدمة 1967، أساسية في توجهه نحو المسرح السياسي، فأنجز مسرحيتيّ "كارت بلانش" و"لماذا رفض سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟"، وكانت "كارت بلانش" نقدًا لاذعًا للسياسة والمجتمع اللبنانيَين، إذ كانت الخشبة المسرحية عبارة عن سوق بغاء محاطة بمحال تجارية، في ترميز قاس للنظام السياسي و"الدور الاقتصادي" وصورة لبنان وفق رؤية يسارية حادة.
هذه الحدّة لم تخفت، فمنذ شهر، عندما قامت المخرجة لينا خوري بإعادة تقديم عمله "لماذا؟"، ثارت ثائرة بعض الأكليروس، معتبرًا المسرحية مهينة لرجال الدين، ومرست ضغوط كنسية وسياسية وإعلامية لوقفها (لم تتوقف بطبيعة الحال).
المدهش أن عصام محفوظ، نادرًا ما يُذكر كواحد من مؤسسي مجلة "شعر" وأحد أبرز شعرائها قبل أن يتحول إلى الكتابة المسرحية، أصدر 4 مجموعات شعرية "أشياء ميتة"(1959)، "أعشاب الصيف"(1961)، "السيف وبرج العذراء"(1963)، "الموت الأول"(1973)، وهو بسبب دراساته الأكاديمية المعمقة في فرنسا، سيكون على صلة وثيقة وعميقة بالتجربة السوريالية وبسجالات الثقافة الفرنسية وتياراتها، بقدر ما كان متعمقًا بالتراث العربي، وبأدب "النهضة"، إذ هو المعروف بالدراسات النوعية والجديدة عن ابن عربي وابن الراوندي وأبو بكر الرازي وجابر بن حيان ثم جبران خليل جبران ومارون عبود وغيرهم، تمامًا كصلته البحثية والإبداعية برامبو وأوجين يونسكو وألفرد غاري وصموئيل بيكيت وأرثر ميلر وجورج شحاده وبول إيلويار ولويس أراغون وأداموف.
كان امتنانًا له أسبوعيًّا، نحن جيل الثمانينيات والتسعينيات، مع صفحته في "النهار" صبيحة كل يوم سبت، كان موعدًا شبه مقدس، مع تلك الوليمة الدسمة ثقافة وأفكارًا وصحافة ونقدًا، وليس مبالغة القول إننا اعتمدنا على قريحته في تعريفنا برموز وشخصيات الثقافة العالمية وحوادثها، مع تلك الصفحة، كنا نتابع ما يجري في مسارح العالم، وما يصدر من كتب وروايات، ويترجم أهم الحوارات، ويؤلف مقالات باهرة في شموليتها وثرائها عن أهم كتّاب العالم. نعرف أراغون مثلًا مثلما يقدمه ويقوله فيه محفوظ، نعرف "السوريالية" وفق تعريفه لها، كان يجلس في مقهى "الويمبي" متأبطًا "لو مغازين ليترير" الأسبوعية الفرنسية مثلًا، فنعرف أن سبتنا سيكون فرنسي النكهة، كانت صفحة ذات تأثير كبير في الوسط الثقافي، لبراعته وموسوعيته فيما يقدمه لنا من مادة ثقافية ومعرفية، حداثوية بامتياز.
لم يكن محفوظ منسيًّا من أهل المسرح، إذ إنه خلال السنوات العشر الماضية، لجأ الكثيرون من المسرحيين الجدد والشبان إلى استعادة أعماله، لكن "الظلم" والإهمال والقسوة والنبذ أتى من أهل الصحافة، ومن زملائه الكُتَّاب والشعراء تحديدًا، حيث مرتع النرجسيات وأخلاق التنكر والإنكار.
aXA6IDE4LjIyNi4xNy4yNTEg جزيرة ام اند امز