ما اختلف بلدان على طول الخط، كما في حال المغرب والجزائر اللذين فرقت بينهما مواقف واعتبارات، كادت تلغي حتمية الوفاق الجغرافي
ما اختلف بلدان على طول الخط، كما في حال المغرب والجزائر اللذين فرقت بينهما مواقف واعتبارات، كادت تلغي حتمية الوفاق الجغرافي الذي تختزله فكرة التزام حسن الجوار. أو في أقل تقدير تدبير الخلافات بما لا يخرجها عن زمام السيطرة. لقد شخص النموذج النقيض في الخيارات السياسية والاقتصادية، قبل هبوب رياح العولمة والافتتان باقتصاد السوق وحرية المبادرة.
انحاز كل من البلدين إلى معسكر، ودبر كل طرف أنماط تعايش دولي وإقليمي لم تترك مجالاً للشك في وضع هذه الحالة رهن الاعتبار لدى شركائهما الأوروبيين والأميركيين والأفارقة، وحتى الأشقاء في العالمين العربي والإسلامي. الأدهى من ذلك أن تعايشهما مع أزمة الجوار صار جزءاً من قناعات سائدة، تتمثل في سريان مفعول إغلاق الحدود البرية والانكفاء في معالجة الهموم الاقتصادية والاجتماعية، وترتيب المواقف، بما في ذلك الحرب على الإرهاب، على إيقاع الخلافات المتواترة.
شيء واحد لم يجد البلدان الجاران بداً من التعاطي معه بقدر أكبر من الانضباط الذي فرضته التحولات، وبالذات ما يطاول إرساء عقارب الساعة على تحولات ما عرف بالحراك العربي الذي انطلق بقوة من الفضاء المغاربي قبل غيره. إنه الانغمار في مسلسل الإصلاحات الدستورية والسياسية التي جنبتهما عواقب وخيمة.
إنها عدوى التغيير التي تتنقل مثل أي فيروس في الأجواء، ولا تستطيع غير الأجسام المسلحة بقدر من المناعة تقبله والانعطاف به إيجاباً في اتجاه الاستجابة لنبض الشارع الذي ينتفض بين الفينة والأخرى، كلما أحس بنوع من الظلم والتعسف. ولعل ما يلفت في مسلسل الإصلاحات، على تباعد فتراتها، أنها اهتمت أكثر بمسألة الهوية. ما يعتبر ظاهرة عافية في بلدان عانت طويلاً من تمزق نسيجها الاجتماعي والثقافي جراء توالي سنوات الاستعمار.
اللافت في التعديل الدستوري الذي أقره الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أنه انصرف إلى قضية الهوية الأمازيغية، عبر الارتقاء بها لتصبح لغة رسمية إلى جانب العربية. ولئن كان المغرب سبق إلى الخطوة في دستور العام 2011، فالأهم أن العنوان الكبير لهذا الاهتمام يبعث على الثقة في أن مفهوم المواطنة يرتقي على غيره من تقاليد الانتساب العرقي واللغوي. بل إنه في التجربتين المغربية والجزائرية يذهب إلى أبعد مدى في احتواء نزعات التفرقة وتشرذم مكونات المجتمع التي تغالي عادة في الخصوصيات النوعية. لكنها تصبح مدعاة للتقسيم والتجزئة، إذ يتم استغلالها بدوافع سياسية.
إذا كان العالم العربي عانى طويلاً ولا يزال من آفة المشاريع ذات خلفيات التجزئة بمبررات عرقية ولغوية وطائفية، فإن منطقة الشمال الأفريقي استطاعت إلى حد ما، نزع فتيل الانفجارات العرقية التي تصل أحياناً إلى درجات الهواجس الانفصالية. وقد يكون السبب قرب المنطقة إلى الفضاء الأوروبي الذي اعتمد خيار التعددية وأنماط الاستقلال الذاتي والحكومات والبرلمانات المحلية، ما مكنها من إيجاد فرضيات قابلة للتعايش.
في بلجيكا مثلاً لم تطرح مسألة اللغة أي متاعب في احتواء نزعات الخصوصيات. إلا أن هواجس الانفصال لا تتخذ من اللغة فقط محور انجذاب، بل تتعداها إلى الأبعاد الاقتصادية وتوزيع الموارد والتأثر بالأزمات، كما يستدل على ذلك من دعوة انفصال إقليم كاتالونيا الإسباني. وبالتالي فإن النص دستورياً على أهمية اللغة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، وقد يحدث نفس الشيء في ليبيا إن تخلصت من أزمتها المستفحلة، من شأنه أن يضعف الميول الانفصالية التي باتت تتغذى على استشراء أزمات الدولة المركزية.
بداية طيبة لا شك في ذلك، لولا أن الوفاق الداخلي في البلدين الجارين لا يسمح بتشدد خارجي، أقله معاودة بناء الثقة وتكريس مبادئ التعايش وحسن الجوار.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة