بعض الضباط قد اتصلوا بالسلطات الأمريكية من أجل معرفة ما يمكن أن تقدم أمريكا من ملاذ آمن لهؤلاء الراغبين فى القفز من سفينة النظام
نشرت جريدة نيويورك تايمز فى 3 فبراير الحالى مقالا بعنوان ( إذا أردتم إنهاء الحرب فى سوريا : ساعدوا ضباط الأسد!) وهى وجهة نظر لموقف سياسى تظهر جلية من العنوان، أن تقصير زمن الحرب فى سوريا وحقن الدماء المسفوكة ، يمكن ان يكون من خلال استمالة ضباط كبار فى الجيش السورى وإقناعهم بعبث ما يفعلونه ، وكثير منهم علويون يشكلون أقلية فى الشعب السورى ، يذهب المقال إلى القول من مصادر موثوقة،
إن بعض الضباط قد اتصلوا بالسلطات الأمريكية بالفعل من أجل معرفة ما يمكن أن تقدم الولايات المتحدة من ملاذ آمن وتأمين لهؤلاء الراغبين فى القفز من سفينة النظام، بعضهم علويون وبعضهم من أقليات أخرى ،فجاءهم الجواب: عليكم أن تتقدموا بطلب تأشيرة دخول للولايات المتحدة للنظر فى الطلب ! المقال مليء بشيء من السخرية حول ما إذا كان هناك إستراتيجية للولايات المتحدة تجاه قضايا الشرق الأوسط بشكل عام، والقضية السورية بشكل خاص.
وهو ينبئ عن ذلك التذبذب فى مواقف الولايات المتحدة بسرد العديد من خيبات الأمل التى سببتها لأنها غير الواضحة وفى بعض الأوقات متناقضة ، هناك مثال آخر يمكن القياس عليه، فعند قيام الجيش المصرى بانقاذ مصر من مصير مظلم، انفتحت ابواب النقد فى الولايات المتحدة على ذلك الفعل الوطني، وإتخذت الإدارة ومراكز الابحاث موقفا سلبيا من القيادة المصرية الجديدة استمر ردحا من الزمن ،ولا اعتقد ان ذلك الموقف قد تلاشى كليا حتى الان، وبطريقة الكيل بمكيالين، يطالب المقال الإدارة بأن تقوم بالاتصال بالضباط السوريين ممن يرغب منهم فى الفكاك من نظام الأسد، ويحث الإدارة على تقديم المساعدة الحقيقية لهم.
على مقلب آخر نشاهد الدبلوماسية الأمريكية تتعامل مع المعارضة السورية بـ ( دبلوماسية الإكراه) فقد نقل وزير الخارجية الأمريكى للمعارضة السورية أخيرا، أن الفرصة الأخيرة المتاحة لكم هى القدوم إلى محادثات جنيف (فبراير 2016) و أن الخطة المتفق عليها كما لمح مع الاتحاد الروسي، هى سبعة عشر شهرا لانتقال السلطة من نظام بشار إلى نظام آخر جديد، واضح هنا أحد الاحتمالين، أما أن الدبلوماسية الأمريكية ساذجة إلى ذلك الحد الذى تستطيع الدبلوماسية الروسية ان تخدعها ،او هى غير راغبة أصلا فى الوصول إلى حل ، لأنها لا تملك التصور لليوم التالى السورى !
بالتالى تترك الأمور على سجية الفعل وردات الفعل. فى الحالين من يدفع الأثمان غالية هو الدم السورى والإنسان العربي!
لقد قامت إدارة براك أوباما فى السنوات القليلة الأخيرة بأفعال كارثية فى منطقتنا ، من بينها الانسحاب غير الناضج من العراق ،ومن ثم تسليمه إلى النفوذ الإيرانى كلية، ودخلت المكونات العراقية، التى لم يصلب عودها السياسي، فى منافسة شرسة لاسترضاء إيران، الأمر الذى نتج عنه وما زال، أولا تهديد الوحدة العراقية، التى من بينها انفصال الإقليم الكردى الوشيك بعدد سكانه البالغ خمسة ملايين نسمة، و بصراع سنى شيعى على ما بقى من العراق، قد يقود الى شكل من أشكال التقسيم ، فى وسط أكبر عمليات فساد فى تاريخ العراق الحديث.
ثم الخلل فى مواجهة الملف السورى الذى أدى فى النهاية إلى ان تتدخل روسيا دون تردد.
لم يكن المحللون فى الإدارة الأمريكية الحالية قادرين على فهم تداعيات حروب مذهبية فى الشرق الأوسط، التى تسبب اضطرابا هائلا يقود إلى عدم استقرار طويل، ويفيض على الإقليم كله بتداعيات خطيرة.
لقد تحدثت الإدارة الأمريكية المتعاقبة فى العشرين سنة الماضية عن أهمية ( الديمقراطية) للإقليم الشرق أوسطي، وكان واضحا إن فهمها لديناميات المنطقة هو فهم سقيم بل رضيت بترحاب فى النهاية بديمقراطية (ثيوقراطية) فى طهران ،دون أى اعتراض يذكر ، كما وافقت على استخدام واسع وغير دقيق لمفهوم الإرهاب ،دون أن تقرنه فى نفس الوقت بالفاشية التى ضج من عنتها شعوب عربية كبيرة.
أصبح الحرب على الإرهاب (علكة) فى فم المسئولين السوريين التابعين للأسد كما المسئولين الروس، دون الحديث عن فاشية متأصلة فى النظام، حصدت حتى الآن أكثر من ثلاثمائة ألف من الضحايا، و آلاف أخرى فى السجون و المعتقلات ، وهدمت مدنا كاملة بمساعدة من ميليشيات عراقية ولبنانية.
ما زالت الرسائل المتعاكسة تأتى من واشنطن ، فتارة نسمع أن تلك السياسة فى سوريا مقصودة لتوريط روسيا فى حرب شبه أهلية، وتارة أخرى نسمع أن هناك تنسيقا عالى المستوى بين الدولتين ( الأعدقاء) ولكن هدم المساكن على رءوس سكانها وبقاء الأطفال والصغار تحت إحجام ضخمة من الاسمنت مازالت تظهر لنا كل مساء على شاشات التليفزيون فى صور ومشاهد يندى لها جبين الإنسانية.
لا يحتاج الأمر إلى منجم ليعرف على وجه اليقين أن الأجندة الروسية هى معاكسة للأجندة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وأن التنافس بينهما سوف يستمر على الأرض العربية.
جزء من الإدارة الأمريكية يرسل شارات بأنه سوف لن يسمح لروسيا ان تقطف ثمار تدخلها، كما صرح وزير الدفاع الأمريكى أخيرا اشتون كارتر حيث قال إن الولايات المتحدة تطور (وسائل عسكرية مفاجئة) بسبب تغير ( سلوك روسيا ) ويدعو الى مواجهتها فى سوريا، فى نفس الوقت الذى يجتمع فيه جون كيرى الوزير الأمريكى مع وزير الخارجية الروسى سيرغى لافروف ويتبادلون الابتسامات !
من المهم للعرب أن يتبينوا اليوم قبل الغد، أن قواعد اللعبة الدولية قد تغيرت ، فهى لم تعد قائمة على شيء من الأيديولوجيات أو الأخلاق الحميدة، هى قائمة على المصالح البحتة، بصرف النظر عما ترغبه الشعوب العربية.
المراهنة من البعض أن يتغير سلوك الإدارة الأمريكية القادمة هى مغامرة أكثر منها مراهنة، كما من طرف آخر الاعتماد على صداقة مع روسيا هى أيضا ضرب من المغامرة.
البديل الحقيقى والأكثر أهمية وبقاء فى خضم الارتداد العربى العميق للحروب الأهلية، هو بناء صف عربى يضع المصالح العربية فى قمة اهتمامه.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة