كثير من دول العالم هناك سلطة معلنة أو خفية تمارس الوصاية على المجتمع وتحكم نيابة عنه وتعتبر نفسها كيانا محصنا لا يُمس ولا يمكن تغييره
فى كثير من دول العالم هناك سلطة معلنة أو خفية تمارس الوصاية على المجتمع وتحكم نيابة عنه، وتعتبر نفسها كيانا محصنا لا يُمس ولا يمكن تغييره.
وقد تفاوتت هذه السلطة من مكان إلى آخر، فقد كانت أحيانا السلطة الملكية المطلقة، وفى أحيان أخرى كانت الدولة العميقة التى تحكم من وراء الستار، وفى أحيان ثالثة هى المؤسسة العسكرية، وفى أحيان رابعة هى الحزب الواحد، وهى كلها كيانات فرضت وصايتها على المجتمع «القاصر»، أحيانا بشكل علنى وقانونى، وفى أحيان أخرى بشكل مستتر.
والحقيقة أن معظم هذه المجتمعات تطورت بالحوار والضغط على سلطة الوصاية حتى تراجعت عن هيمنتها بشكل تدريجى واستقر المجتمع وتعافى، وتخلص من أمراضه ومن سطوة سلطة الوصاية فى نفس الوقت.
لقد حدث ذلك مع سلطات ملكية كثيرة بدأت تملك وتحكم، وانتهت كسلطة تملك ولا تحكم، وحدث أيضا مع المؤسسة العسكرية، فبدأت وهى تحكم بشكل صريح أو مستتر كما فى كثير من بلدان أمريكا الجنوبية والعالم العربى، وانتهى الأمر بأن أصبح لها حق الفيتو فى أمور استراتيجية وأمنية وسياسية كبرى بدلا من سلطة الوصاية، ونفس الأمر تكرر مع بعض تجارب نظام الحزب الواحد التى بدأت بحزب واحد يحكم ويقود، وانتهت بنظام تعددى ليست فيه وصاية لأحد.
والحقيقة أن هناك نماذج مختلفة لسلطة الوصاية، فهناك نموذج ملفوظ شعبيا ومفروض على الناس بالقمع والبطش، وهناك نموذج آخر يختاره الناس- ولو لفترة- بمحض إرادتهم ويقبلون بالوصاية نتيجة فشل مسبق أو ثقة فى هذه السلطة، فمثلا بلد مثل إيران اختار نظام ولاية الفقيه أو سلطة الوصاية الدينية، عقب ثورة شعبية كبرى، وبنى نظاما سياسيا تتصارع داخله أجنحة مختلفة من محافظين وإصلاحيين دون أن تُمس سلطة المرشد وأذرعته المختلفة، التى لها الحق فى تحديد شروط وقواعد اللعبة السياسية نيابة عن الناس، التى لها الحق فقط أن تختار بين مَن يعتمدهم «فلتر» الولى الفقيه ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور، الذى وافق- أمس الأول- على «أهلية» ترشيح 51% فقط من إجمالى مَن قدموا أوراقهم للترشح فى الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها خلال أسبوعين.
أما مصر، فالمؤكد أن الحديث دائما له علاقة بوصاية الجيش على الحياة السياسية والمدنية منذ ثورة يوليو 1952 حتى الآن، والحقيقة أن سلطة الوصاية جاءت مرتين، بعد أن فشلت سلطة «اللا وصاية» الحزبية والسياسية فى حكم البلاد، فالمؤكد أن فشل الأحزاب السياسية قبل ثورة يوليو 52 فى تحقيق مطالب الشعب فى الاستقلال والدستور والعدالة كان هو المبرر الرئيسى وراء وقوف غالبية الناس خلف ثورة الضباط الأحرار ضد النظام القديم، وأصبح الناس ينتظرون البطل المخلص ويقبلون بوصىٍّ عادل بديلا عن نظام شبه ليبرالى لم يحل مشاكلهم.
وجاء العصر الحالى وحدثت ثورة 25 يناير، ولاحت أول فرصة حقيقية للشعب المصرى للخروج من سلطة الوصاية، ضَيَّعها خطاب المراهقة الثورية والإخوان، بعد أن ابتعد الجيش عن الساحة السياسية، وسَلَّم السلطة لأول رئيس مدنى منتخب، سرعان ما أدخل البلاد فى نفق مظلم جعل غالبية المصريين يتمنون عودة وصاية مبارك وليس فقط وصاية الجيش.
سلطة الوصاية المعاصرة تعنى ضمنا أو صراحة فشل المجتمع فى حكم نفسه بشكل مستقل، وتعنى أيضا عجزه عن إدارة صراعاته بشكل سلمى وديمقراطى، وهو ما يعنى إعطاء شرعية سياسية وشعبية لتدخل سلطة الوصاية، على اعتبار أن المجتمع مازال قاصرا، وأنه سيدمر نفسه إذا تُرك دون هذه السلطة.
مازلت أذكر كيف اعترض كثير من الأصدقاء التوانسة على دعم التيار المدنى تدخل الجيش فى مصر فى 3 يوليو، وأذكر جيدا- منذ أكثر من عامين- لقاء جمعنى فى القاهرة بعدد من السياسيين والمثقفين التوانسة «المعارضين للنهضة والإخوان»، على عشاء بالقاهرة، وأنهم قالوا لى: كيف تدعمون السيسى وكيف تقبلون حاكما عسكريا؟ وإجابتى كانت: عليكم إعادة طرح السؤال لأصله، فإن النظام الجمهورى فى مصر بناه عبدالناصر والضباط الأحرار، فى حين أنه فى تونس بناه حزب سياسى ورئيس مدنى هو الحبيب بورقيبة، كما أنه فى مصر انتخب ما يقرب من 49% من أبناء الشعب المصرى الفريق أحمد شفيق، وهو كان رئيس وزراء مبارك الذى ثاروا عليه.
سلطة الوصاية لها فى أحيان كثيرة ظهير شعبى كبير، وهى عادة ما تأتى عقب فشل النخب والأحزاب المدنية فى إدارة شؤون البلاد، بل إن استدعاء سلطة الوصاية كان إنقاذا للبلاد من أخطار أكبر تعرضت لها مع حكم جماعة الإخوان المسلمين، فكان تدخل الجيش بإرادة شعبية لقطاع غالب من المصريين.
ويبقى السؤال: هل سلطة الوصاية فى مصر قادرة على الحكم والاستمرار الأبدى فى السلطة؟ وهل هى تحكم بلا مشاكل وتحديات؟ الإجابة الحقيقية أن وجود سلطة وصاية «خام» تحكم بأدواتها وأجهزتها المباشرة، وتغيب عنها الرؤية السياسية- «على خلاف ما جرى فى عهود الوصاية السابقة»- أمر لا يمكن أن يستمر، وأن مهام هذه السلطة لم تعد المشاركة فى القرار السياسى ولا وضع خطوطه الحمراء، إنما التدخل فى أدق تفاصيل المشهد السياسى من تشكيل قوائم وترتيب حملات تحريض إعلامية وغيرهما من الأمور التى أَضَرَّت باستقرار البلاد وبفرص تطورها.
لا أحد يسأل عن مستقبل السلطة فى مصر فى ظل خطر الإرهاب وتربص الإخوان وعمق الأزمة الاقتصادية والسياسية، وهل المطلوب أن يبقى المجتمع إلى ما لا نهاية له خارج الفعل، «حتى لو أخطأ فى بعض خياراته»، وتحت سلطة الوصاية تحت حجة أنه غير مؤهل لحكم نفسه، أم أن هذا المجتمع قادر على الانتفاضة ونقل البلاد من حالة سلطة الوصاية التى تهيمن على مناحى الحياة إلى سلطة لها «حق الفيتو» حين يتعلق الأمر بتحديات كبرى تخص الأمن القومى والمجتمع والدولة؟ هذا ما ستُثبته الأيام القادمة، فقد يرتاح الناس- كما يرى أغلبهم الآن- لسلطة الوصاية، وقد يعدلون من موقفهم ويقدمون ما يُثبت أنهم قادرون على حكم أنفسهم بأنفسهم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة المصري اليوم وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة