"الكلمات".. مذكرات شخصية قاسية لسارتر تلخص فلسفته
كتاب "الكلمات" ينقسم إلى قسمين: القراءة والكتابة، ويستعرض المؤلف من خلالهما حياته بدءاً من مولده حتى بلوغه سن الـ12.
أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر طبع كتاب "الكلمات" لجان بول سارتر، والذي يتناول أصل الأنا وحلم الماضي من خلال مذكرات شخصية قاسية تطرح فلسفته الوجودية.
جان بول سارتر فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي من مواليد عام 1905 في باريس، بدأ حياته العملية أستاذاً ودرس الفلسفة في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وحين احتلت ألمانيا النازية فرنسا انخرط في صفوف المقاومة الفرنسية السرية وتوفي في 15 أبريل/نيسان 1980 بباريس.
تنوعت أعمال سارتر بين الكتب الفلسفية مثل: "الوجود والعدم"، "الوجودية مذهب إنساني"، و"نقد العقل الجدلي"، والرواية مثل "الغثيان"، "الثلاثية" وطرق الحرية"، وكتب للمسرح "الذباب"، "الغرفة المغلقة" و"العاهرة الفاضلة"، إضافة إلى كتابه "الكلمات" الذي يتناول فيه السنوات الـ11 الأولى من عمره.
في مقدمة هذه الطبعة من الكتاب يقدم المترجم خليل صابات أهم الخطوط الرئيسية في تكوين جان بول سارتر الفلسفي، وفي كتابه الشهير الذي يعد أحد أهم كتب السيرة الذاتية في القرن الـ20، والذي أحدث أثراً كبيراً بين قرائه، ويدمج فيه سارتر العديد من التقنيات الأدبية بين الرواية والسيرة الذاتية والرؤية الفلسفية.
ينقسم الكتاب إلى قسمين: القراءة والكتابة، ويستعرض المؤلف من خلالهما حياته بدءاً من مولده حتى بلوغه سن الـ12، مروراً بتكوينه الأسري، ملقياً الضوء على بعض أفراد عائلته لأمه مستعرضاً تكوينهم الثقافي من خلال العصر الذي عاشوا فيه وبخاصة جده لأمه العالم الفرنسي الشهير والموسيقي والمبشر المسيحي ألبرت شيفتزر.
لم يكن وجود الجد في حياة الطفل سارتر عرضياً، بل أثر في وحدته وتعميق انعزاله عن المجتمع، وهو ما يورده في كتابه فيعبر عن علاقته مع جده بقوله: "كنت أبقى في المنزل بسبب أنانية جدي وموقفه الاستحواذي".
في القسم الأول وهو القراءة، يروي سارتر لحظة ميلاده ووفاة أبيه بعد مولده بعام واحد وانتقال أمه "آن ماري" به إلى بيت جده وتعلمه القراءة وأثرها عليه وعلى طفولته وطبيعته الشخصية دون التوقف أمام الأحداث بالسرد والتفصيل، بل بتطبيق مفاهيمه الفلسفية عن الأنا والوجود من خلال كتابة وقراءة واعية لتفاصيل دقيقة في مرحلته العمرية المبكرة.
فيقول: "وعند موت أبي استيقظت أنا وآن ماري من كابوس مشترك"، ويتساءل: "من أطيع؟ إنهم يشيرون إلى عملاقة شابة ويقولون لي إنها أمي ولو ترك الأمر لي لاعتبرتها شقيقتي الكبرى إن هذه العذراء المحددة إقامتها والخاضعة للكل أرى جيداً أنها هنا لتخدمني، إني أحبها ولكن كيف لي أن أحترمها ولا أحد يحترمها".
أما الفصل الثاني وهو الكتابة، فيتناول فيه رحلته بدءاً بما يسميه الكتابة الآلية والتي تأثر فيها بما قرأه في طفولته وصباه وبما كان يمارسه جده من كتابات خاصة بالمناسبات والأعياد ويطور الكاتب تأثره هذا إلى ما يسميه صراحة بالسرقة الأدبية.
يروي الفيلسوف الفرنسي بعض قصصه مع الكتابة، فيحكي أنه لم ينخدع بالكتابة الآلية، فحين كان ولداً وحيداً كان يستطيع أن يلعبها وحده، وبين لحظة وأخرى كان يوقف يده، ويتظاهر بالتردد، ليشعر بنفسه وقد تقطب جبينه، فيتصور نفسه وقد صار كاتباً، وكان يذهب بالسرقة الأدبية إلى أقصى حدودها.
ويوضح كيف أقبل بعدها على الكتابة بكثافة غير متوقعة، ليقرر جده السيطرة على زمام مهنة سارتر المستقبلية، التي لا يجب أن تكون الكتابة وإنما التدريس ليقينه بأن الكتابة لا توفر خبزاً، كان من وجهة نظر الجد أن على سارتر أن يصبح مدرساً للأدب الفرنسي وأن يكتب في جريدة "الأحد" إن أحب.
لم تكن الكتابة لدى سارتر مجرد فعل، وإنما كانت اختياراً بالنسبة لشخص لم يختر اسمه وشخصه، فكل هذا كان في يد الكبار من حوله، إذ تعلم رؤية نفسه من خلال أعينهم، ولم يرغب يوماً أن يكون البديل لما لم يستطعوا إنجازه في حيواتهم.
إن الفلسفة الوجودية تجتاح كيان سارتر في مرحلة يستوعب فيها تسلط الأسرة على قراراته، فيستنتج فعلاً أننا نتاج ما أراد الآخرون أن نصبح عليه، هذا بالضبط ما دفع سارتر للتمرد على سلطة الجد باختيار مهنة الكتابة حتى أصبحت سلاحاً وجزءاً منه، كان يرى الكتابة نافعة في كل الأحوال، وكان يرى أن الثقافة ربما لا تنقذ أحداً، وقد لا تجد الحلول العالمية، لكنها إنتاج الكائن البشري، من خلالها يتعرف المرء على نفسه ويجدها.