زيارة لمكتبات العالم.. التاريخ السري للقراءة
كتاب "زيارة لمكتبات العالم" يعرض للمكتبة باعتبارها حالة مكانية تستمد قوتها من أهمية التراث ضد تآكل الماضي والذاكرة والكتب.
يعرض كتاب "زيارة لمكتبات العالم" لخورخي كاريون، الصادر حديثاً في القاهرة، برتجمة ريم داوود، لخلفيات القراءة السرية والمجهولة، من خلال عرض فكرة "المكتبة" باعتبارها حالة مكانية تستمد قوتها من أهمية التراث ضد تآكل الماضي والذاكرة والكتب، ويعرض رؤيته للكتب باعتبارها حركات مقاومة تكافح من أجل عدم احتلال مكانها في تاريخ المعرفة البشرية.
- بيل جيتس يهدي المكتبة البريطانية مفكرة نادرة لـ"دافينشي"
- 17 ألف كتاب هدية "الفكر العربي" إلى مكتبات لبنان
منذ صفحاته الأولى تلمح حميمية ناتجة عن عرضه للمكتبة بوصفها بيوتاً أو مقاهٍ، تتجاوز اختلافات الدين والعرق واللون وغير ذلك، من خلال رحلات المؤلف وقصصه مع شراء الكتب، بتفاصيلها الحيّة، ومع تجار الكتب سواء كانوا مقيمين أو جوالة، منعزلين أم يتقاسمون حيواتهم بعاداتها وتقاليدها مع غيرهم، المنافسة بين النسخ الوحيدة، الفريدة، والسلاسل الشائعة.
يقف الكتاب، الصادر عن دار "العربي" بترجمة ريم داوود، على "القراءة" بوصفها هوساً وجنوناً، ورغبة في اللاوعي، أو في إطار العمل، ويعرض لهذا بأسلوب يبعث على الارتياح، أو كبديل عن تجاوز الحدود الجغرافية، وأن كل ما يحتاج إليه القارئ لينتقل من مكان إلى مكان آخر هو مجرد خطوة.
وعبر لقطات سريعة يعرض الكتاب في مدخله إلى إمكانية وجود مجلد صدر للمرة الأولى في 1976، يجاور آخر ظهر بالأمس فقط، أو أنه قد وصل للمكتبة للتو.. دراسة حول هجرات "ما قبل التاريخ"، أو أن الأعمال الكاملة لكامو (من أشهر أدباء فرنسا في القرن الـ20) تسبق في الترتيب ثيربانتس (كاتب مسرحي وروائي وشاعر إسباني في القرن الـ16)، وأن انعطافة بسيطة يمكنها أن تربط داخل العقل بين الدراما الإغريقية والروايات الأمريكية العظيمة، وبين تاريخ الشرق الأقصى، بالروايات الأكثر مبيعاً حول الحياة في المجتمعات الغربية.
من مكتبة "كتب التفاح الأخضر" في سان فرانسيسكو، إلى "الحوت الأبيض" في مدينة ميريدا الفنزويلية، ومن "إيكون دي باج" أو "رغوة الصفحات" بباريس إلى "صالة الكتب" في كيب تاون بجنوب أفريقيا، وغيرها كثير وكثير من المكتبات حول العالم، تنقل بينها المؤلف كمن يختم أوراقاً رسمية، مصوراً لقطات حية، كاحتياجه لتوصيل الإنترنت في "عمان" أو الاستراحة التي جلس بها في "ريو دي جانيرو" أو "بيرو" أو "اليابان".
وينوه الكتاب إلى أن تاريخ مكتبات بيع الكتب يختلف تماماً عن تاريخ المكتبات العامة، فالأولى تفتقر إلى الاستمرارية والدعم المؤسسي، لكنها تتميز بقدرتها دوماً على التفاعل مع الجمهور بشكل مباشر، ما يمنحها نوعاً من الحرية، ولكنها غالباً ما تواجه بقلة اعتناء الباحثين بها، إلى أن تندثر، وتتحول مع الوقت إلى أسطورة، ويضرب المؤلف عدة أمثلة لذلك، كساحة كاتدرائية القديس "بولس" بلندن، والتي كانت تضم 30 مكتبة، منها "ذا باروت" التي لم يكن صاحبها مجرد صاحب مكتبة، وإنما أحد ناشري "شكسبير".
إن هذه المكتبات يستحيل التأريخ لها إلا من خلال الرجوع إلى الصور الفوتوغرافية، والبطاقات البريدية المصورة، وعقد المقارنات والعلاقات بين المحلات التي اختفت وانتهى نشاطها وتلك التي لا تزال قائمة وموجودة، إضافة إلى الاستعانة بالنصوص الأدبية والمقالات.
ومن الصور التي أيدت فكرة الكتاب بقوة، حديثه عن مكتبتي "آلتير" و"عوليس" الإسبانيتين، وهما مكتبتان متخصصتان في أدب الرحلات، والمثير أن كلاً من صاحبيْ المكتبتين يعتبر نفسه رحالة في المقام الأول، ثم ناشراً وبائع كتب ثانياً، وكذلك في مكتبة "باريس" وهي تنتمي للنوع ذاته من المكتبات، تفرض صاحبتها على الموظفين السفر معها إلى بلدة "هندايا" الفرنسية في كل صيف، وبشيء من الرمزية فإن هذه المكتبات وغيرها عادة ما تمتلئ بالخرائط ومجسمات الكرة الأرضية، وعادة ما تبيع هذه المكتبات لوازم السفر الفعلية.
كما يورد الكتاب قصص بعض الكتب الممنوعة، وأثر ذلك الإيجابي غالباً على رواجها، واستفادة الناشرين من ذلك، وارتباط أغلب هذه القصص بفكرة "الرقابة" بجميع صورها، لدرجة أن النائب العام في فرنسا يصدر ما يشبه حكماً نقدياً بمنع كتاب "أزهار الشر" للشاعر الفرنسي بودلير، فيتمكن الناشر تبعاً لذلك من بيع جميع النسخ التي تحتوي على هذه القصائد الممنوعة، حتى النسخ التي بها بعض الأخطاء في الكتابة والترتيب، والتي كانت قد استبعدت من قبل من قائمة البيع.
كذلك يشير الكتاب إلى بعض المكتبات التي تمَّ تخليدها في نصوص أدبية، ومن ذلك مكتبة "ليوناردو دافينشي"، ومن ذلك قصيدة "مارسيو كاتوندا" التي أسماها مكتبة، وكان يصف فيها الممر المؤدي إلى الدور الأرضي، والواجهة الزجاجية المزودة بإضاءة غاية في القوة، أو ما قاله "دي آندريد"، ومنها قوله (المتجر تحت الأرضي/ يعرض كنوزه بطريقة خاصة/ وكأنما يحميها من مجاعات مفاجئة)، وغيرها من الأعمال الأدبية التي خلدت كثيراً من المكتبات بعينها، أو الإشارات المهمة في الأعمال منها "100 عام من العزلة" على سبيل المثال.
وفي ختامه، ينطلق الكتاب من مشهد تحويل مكتبة "كتالونيا" والتي يقترب عمرها من 100 عام، من مكتبة لبيع الكتب إلى أحد فروع مطعم ماكدونالدز.
ويورد في الكتاب صورة من النسخة الأصلية لإعلان المكتبة ذلك الخبر، الذي جاء في صيغة درامية مؤثرة للغاية تضمن استمرارها ونجاتها من أهوال الحرب الأهلية، ونجاتها من الحريق الذي أصابها، وغير ذلك من الأحداث، وكذلك ما حدث مع مكتبة "البوصل" الإيطالية، ولعل في اختيار إلقاء الضوء عليها إشارة للعالم الذي يفقد بوصلته تدريجياً بغلق المكتبات، والاتجاه بقوة نحو مصادر أخرى للمعرفة معتمدة بشكل رئيسي على الإنترنت، مع احتفاظ المكتبات والكتب الورقية بقيمة خالدة لا تفنى.
خورخي كاريون كاتب إسباني، من مواليد 1976، حاصل على دكتوراه في "الإنسانيات" من جامعة "بومبيو فابرا" ببرشلونة، وهو يدرس الآن مادة الأدب المعاصر بالكلية نفسها، حصلت إحدى رواياته على جائزة "فستيفال دي تشامبري"، وقد حصل هذا الكتاب على جائزة "أنا جراما" عام 2013، كما تمت ترجمته إلى أكثر من 10 لغات.