دومة لـ"العين": الناقد الحقيقي هو من يتفاعل مع جمهوره
خيري دومة من أهم نقاد العالم العربي، حصل كتابه الأخير عن ضمير المخاطب في السرد العربي على جائزة أفضل كتاب نقدي في معرض القاهرة للكتاب
خيري دومة واحد من ألمع النقاد المصريين والعرب من الجيل التالي لجيل الأساتذة من النقاد المعاصرين "عبدالمنعم تليمة، جابر عصفور، إبراهيم فتحي، محمد برادة، فيصل دراج، صلاح فضل.." وآخرين. حصل كتابه "أنت ـ ضمير المخاطب في السرد العربي" على جائزة أفضل كتاب نقدي من معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة التي اختتمت فعالياتها قبل أسبوع.
خيري دومة تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة، وحصل على الماجستير عن دراسته "قصص سعد مكاوي القصيرة" وعلى الدكتوراه في موضوع "تداخل الأنواع في القصة القصيرة"، شغل عددا من المناصب المهمة منها رئيس مركز اللغة والثقافة العربية التابع لجامعة القاهرة، والمشرف العام على المركز القومي للترجمة، ثم مستشارا وخبيرا به، وحاليا يعمل دومة أستاذا للأدب والنقد بجامعة القاهرة.
لدومة عدد وافر من الكتب والدراسات النقدية والترجمات التي احتلت مكانها في المكتبة النقدية العربية؛ وكان آخر ما صدر له من مؤلفات كتاب "أنت ـ ضمير المخاطب في السرد العربي" (عن الدار المصرية اللبنانية)؛ وهو كتاب يختص بدارسة وتحليل -ربما للمرة الأولى في النقد العربي- ظاهرة السرد عن طريق ضمير المخاطب أو كما يسميه البعض "الضمير الثالث". في هذا الكتاب يرد دومة طريقة السرد المعاصر هذه التي اعتمدت ضمير المخاطب إلى ما هو أبعد من الأعمال الأدبية الحديثة، ويعود إلى نصوص أقدم في التراث القريب والبعيد..
بمناسبة حصوله على جائزة أفضل كتاب نقدي.. كان هذا الحوار الذي خصّ به دومة "العين"..
* لم يكد يمر عام على صدور كتابك الأخير حتى توج بجائزة مستحقة.. حدثنا عن "أنتَ"؟
- كتاب "أنتَ" جاء نتاجا لبحث متأن استمر أكثر من خمسة عشر عاما. لفتني وأنا أعمل على النثر العربي القديم بتاريخه الطويل، لفتني واحدٌ من أشهر الكتب التي استخدمت ضمير المخاطب وأطولها في التراث العربي، أعني كتاب "الإشارات الإلهية" لأبي حيان التوحيدي. وقد مثّل الكتاب بالنسبة لي، بلورةً لنوع من الأدب العربي لم يلق حظه من الدرس النقدي، كما مثل ذروة متقدمة لاستخدام ضمير "الأنت"، على نحو أقرب إلى ما فعله الكتاب المعاصرون، حين انقسموا على أنفسهم وأشبعوها لومًا وتقريعًا.
كنتُ كلما مضيتُ في البحث، تتبدّى وجوه من الظاهرة، وتدفعني إلى مناقشة نصوص وكُتّاب وجوانب جديدة، تبلورت كلها حول النقطة التي بدأت منها: "صعود ضمير المخاطب في السرد المعاصر". كان ضمير "أنت" -مع اختلاف ما يشير إليه من معنى في كل مرحلة– هو المسألة المحورية التي تقف وراء كل المساعي البحثية في الموضوع.
** تبدو الإحاطة هنا بظاهرة "الأنتَ" أشمل وأكبر من مجرد إخضاعها للتحليل النقدي أو اللغوي.. هل هذا صحيح؟
- نعم. إلى حد كبير. انطلقت الدراسة بدءًا من المسعى الأنثربولوجي الذي ناقش علاقة هذا الضمير بمسألة "الشفاهية والكتابية" المؤثرة في تاريخ الثقافة البشرية، ومرورًا بالمسعى اللغوي الحديث الذي ناقش دلالة الضمير النحوي (أنت) في علاقته بالضمائر الأخرى في سياق الاستخدام، أو في الإطار التداولي. ثم المسعى السردي الذي ناقش دلالة الضمير السردي (أنت) وصعوده الملحوظ في قصص تيار الوعي والرواية الجديدة. ثم ما لحق باستخدام "الأنت" من تغير في الدلالة على يد الكتاب المعاصرين ممن يسمون ما بعد حداثيين، وما أشار إليه استخدامهم من انتهاك لعالم القراء، وما حمله من معاني العدوان والنقمة والسخرية والاحتجاج. كل هذا فضلاً عن حضور هذا الضمير في سياق "الشفاهية الثانوية" التي تلعب فيها وسائل الاتصال الحديثة دورًا مربكًا وحاسمًا.
** تنتمي لتيار النقد الاجتماعي (إن كان ثمة مجال لتصنيف في الوقت الراهن!) وتتلمذت على يد أعلامه الكبار. كيف ترى المشهد النقدي الآن خصوصا في ظل الشكوى التي تكاد لا تنتهي "غياب النقد والنقاد"؟
- في الأغلب، كل الأسئلة التي تتعرض لمظاهر الضعف والتردي في المتابعة النقدية أو تراجعها، على تنوعها وتعددها، تكاد تنطلق من بؤرة واحدة: غياب النقد الأدبي ودوره في حياتنا الثقافية، على عكس ما كان سائدًا في أزمنة سابقة، فوسائط الاتصال أصبحت اليوم أوسع بكثير عن حالها في هذه الأزمنة السابقة، وهو ما يفتح أبوابًا واسعة لنشر الأعمال الإبداعية من ناحية، وللكتابة النقدية عن هذه الأعمال من ناحية أخرى.
وبقدر ما يكون هذا في مصلحة الإبداع والنقد على السواء، فإنه يرهق القارئ المتابع؛ لأنه لن يتمكن بحال من متابعة آلاف الأعمال الإبداعية المنشورة سنويًّا، ثم متابعة ما يكتب عنها من نقد على اتساع العالم العربي.
وانطلاقا من هذه الحقيقية، فإنه وسط كل الزحام الناتج عن هذا يمكن أن تتوارى أصوات مبدعة ممتازة، وتتوارى معها أصوات ناقدة لا تقل تميزًا. كما أن هناك على الجانبين اليوم: الإبداع والنقد، متطفلين يلعبون دورًا مفسدًا للمناخ، ومحبطًا لمن يريد أن يعمل أو يكتب.
أنا كما أشرت في سؤالك ممن يؤمنون بالوظيفة الاجتماعية للنقد، وأهمية بل ضرورة أن يكون متوجها لجمهور متلق سواء كان متخصصا أم غير متخصص، تعلمتُ من أساتذتي الكبار في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، أن للنقد الأدبي وظائف اجتماعية تتجاوز التخصص الضيق، وأن النقاد الأعمق هم من يلعبون دورًا واضحًا لدى القراء المختصين وغير المختصين على السواء.
وعبر سنين طوال كنت أتعلم من كل أساتذتي، وخصوصًا الرحل الكبير عبدالمحسن طه بدر، كيف أكتب كلامًا مفهومًا وسهلاً، بشرط أن يظل عميقًا ومؤثرًا وكاشفًا عن معرفة أكاديمية حقيقية. كان هذا شأن النقاد والكتاب الكبار مثل لويس عوض وعلي الراعي ويحيى حقي وشكري عياد وعبدالمحسن بدر ورجاء النقاش وفاروق عبدالقادر، وغيرهم كثيرين ممن قدموا، على ما بينهم من اختلاف، الأعمال الأدبية الجديدة للقراء.
** على ذكر عبدالمحسن بدر وهو قامة رفيعة من أعلام الدراسة الأدبية والنقدية في تاريخنا الثقافي المعاصر. يبدو تأثيره عميقا وغائرا في وجدان ووعي خيري دومة؟
- تستطيع أن تقول دون تردد إن ذكر اسم عبدالمحسن طه بدر في هذا السياق أمر جوهري جدًا بالنسبة لي. لم تكن لي صلة كبيرة بالأدب قبل الالتحاق بالجامعة. كنت فقط أحب الأدب الذي يصل إلى أمثالي من أبناء القرى، الشعر الذي غناه الكبار لشوقي ومحمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وأمثالهم، ونصوص الأدب المدرسية التي كانت إلى ذلك الزمن تُنتقى بعناية، وكتب الكبار المتاح بعضها في مكتبات المدارس، كنت قد قرأت مثلا كتاب «على هامش السيرة» وترك في نفسي أثرًا بالغًا، وكنت قد قرأت "الأيام" طبعًا، ثم "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ. لكنك لا تستطيع أن تقول باطمئنان إنني تربيت في بيئة قراءة واسعة.
حين دخلت إلى قسم اللغة العربية، وفي السنة الأولى، تعرفت إلى عبدالمحسن بدر من طرف واحد بطبيعة الحال، فالاقتراب منه كان أمرًا صعبًا، لكنه كان يحاضرنا في مادة "مدخل إلى دراسة الأدب"، وبعض دروس موسيقى الشعر. الأهم في شخصية عبدالمحسن هو أنه كان حكاء يشدك إلى عالم الأدب ويبسطه لك على نحو يدفعك إلى حبه وحب الأدب..
بدأت علاقتي المباشرة به في السنة الرابعة، حين كتبت بحثًا عن "ثرثرة فوق النيل"، وكان البحث سببًا في حوار طويل امتد إلى ما بعد التخرج، وبعد الماجستير الذي أشرف عليه عبدالمحسن وشارك في الإشراف سيد البحراوي الذي تعمقت علاقتي العلمية والإنسانية به على نحو لم يحدث مع أستاذ آخر. ولعله من الغريب أن تكون أول كلمة منشورة لي، هي مقالة قصيرة في تأبين عبدالمحسن بدر نشرت وقتها في (أدب ونقد).
في تلك السنوات الأولى كانت ثقافتي النقدية تتكون من خلال القراءة على الخصوص؛ لأنني لم تكن لي شجاعة الانخراط في مجتمع المجلات والندوات والنقاش الأدبي المعلن، كنت تلميذا منكبًا على القراءة والتعلم وتجريب نفسه في الكتابة، في تلك المراحل الأولى تعلمت الكثير، نعم، لكنني أيضًا خسرت الكثير بسبب أنني لم أكن أتمتع بشجاعة الاقتحام. وكانت تلك نقطة خلاف دائمة بيني وبين أستاذيّ عبدالمحسن بدر وسيد البحراوي.
aXA6IDEzLjU4LjI4LjE5NiA=
جزيرة ام اند امز