عبد الحكيم قاسم.. كاتب الفضاءات الريفية
المرة الأولى التي يتم فيها جمع أعمال عبد الحكيم قاسم القصصية في مجلد واحد وكذلك نصوصه الروائية القصيرة في طبعة جديدة وإخراج فني متميز
حدث أدبي كبير أن تعيد دار الشروق إصدار طبعة جديدة منقحة من أعمال الكاتب والروائي المصري الراحل عبد الحكيم قاسم (1935-1990)، أحد أبرز أسماء جيل الستينيات الأدبي، وصاحب الدرة الروائية الشهيرة (أيام الإنسان السبعة) المختارة ضمن أهم 100 رواية عربية في القرن العشرين.
الكتب الثلاثة التي أصدرتها دار الشروق هي على الترتيب: رواية (قدر الغرف المقبضة)، و(القصص القصيرة) و(الروايات القصيرة). وهي المرة الأولى التي يتم فيها جمع أعمال عبد الحكيم قاسم القصصية في مجلد واحد، وكذلك نصوصه الروائية القصيرة، لتكون بين يدي عشاق كتابة عبد الحكيم قاسم في طبعة جديدة وإخراج فني متميز.
رواية (قدر الغرف المقبضة) واحدة من 3 روايات شهيرة لعبد الحكيم قاسم طبعت منفردة في طبعات عدة، أشهر هذه الروايات وأذيعها صيتا (أيام الإنسان السبعة). (قَدَر الغرف المقبضة) رواية تجسد الإحساس بوطأة السجون، ومعاناة حصار جدرانها للإنسان إلى درجة القهر الذي يحاصر الروح والجسد. ولا يتحقق هذا المعنى، فحسب، من خلال تجربة الراوي عبد العزيز في السجون المصرية، في زمن ينتمي إلى السنوات السابقة على عام 1964، وإنما يتجسد أيضًا من خلال تناول كل البيوت والشقق التي سكنها الراوي، قبل تلك السنوات وبعدها، في قريته غير المسماة، ثم في مدن عدة تبدأ من "ميت غمر" بدلتا مصر، وتنتهي ببرلين (ألمانيا)، مرورًا بطنطا والإسكندرية والقاهرة.
الكتاب الثاني (القصص القصيرة)، يضم الأعمال القصصية القصيرة التي كتبها عبد الحكيم قاسم عبر مشواره الأدبي، وهي التي نشرت في مجموعاته: "الأشواق والأسى" (1984)، "الظنون والرؤى" (1986)، "الهجرة إلى غير المألوف" (1987)، "ديوان الملحقات" (1990)، و"الديوان الأخير" (1991) الذي صدر للمرة الأولى عقب رحيل عبد الحكيم قاسم بعام واحد. في هذا الكتاب الجامع لقصص عبد الحكيم قاسم، يظهر أسلوبه السردي الفريد الذي لا يغفل التفاصيل، فضلًا عن القدرة التحليلية الفائقة التي تمكنه من أن يغوص في أعماق أبطال قصصه، مجسدًا ببصيرته الأدبية همومًا أثقلتهم ورسمت معالم مأساتهم الإنسانية، وينقل بحساسيته الفنية المرهفة عالمًا مصريًّا أصيلًا من خلال الحياة في الريف والمدن الصغيرة. كل ذلك من خلال لغة غاية في الشاعرية والعذوبة، وسرد عبقري فاتن، وقدرة عظيمة على الوصف الدقيق للمشاهد.
أما الكتاب الثالث (الروايات القصيرة)، ضمن أعماله الكاملة التي اضطلعت دار الشروق بإخراجها في هذه الطبعة الجديدة، فيضم أعماله الروائية القصيرة (خمسة نصوص روائية قصيرة)؛ هي: "المهدي"، "طرف من خبر الآخرة"، "رجوع الشيخ"، "الأخت لأب"، و"سطور من دفتر الأحوال"، بالإضافة إلى نص قصير غير مكتمل بعنوان "تجلي السر" وهو فصل من رواية "كفر سيدي سليم"؛ التي أراد لها الكاتب أن تكون رواية تتألف من 15 فصلًا، ولكنه توفي قبل أن يتمها.
في روايته القصيرة "المهدي"، يصور قاسم، بلغة مكثفة وسرد عبقري كيف تغلغلت جماعة الإخوان في القرى الريفية خلال فترة السبعينيات واستطاعت السيطرة على المجتمع، من خلال قصة مسيحي يهرب من ظروف حياتية صعبة إلى إحدى القرى، ليجد الجماعة تحاول استمالته وفرض سيطرتها عليه لتغيير دينه. وفي عمله المثير "طرف من خبر الآخرة"، تتجلى لغة الأديب الخاصة التي تحمل طابعًا تراثيًّا مميزًا؛ لغة تمزج بين تراث الفصحى النابع من القرآن الكريم ذاته، وتراث العامية الخصيب الجاري على ألسنة الناس في حياتهم اليومية؛ ليصور لنا أكثر تجارب النفس الإنسانية ثراءً وإلهامًا، وهي علاقته بالآخرة.
عبد الحكيم قاسم.. سيرة كتابة
عبد الحكيم قاسم، روائي وقاص مصري، ولد في قرية "البندرة" من أعمال مركز "السنطة" بمحافظة الغربية، لأب يؤجر بضعة أفدنة، بالكاد كانت تكفي لإعالة أسرته، وتمنحه فرصة أن ينفق بعض الوقت في ممارسة شعائر الصوفية، وقد كتب قاسم فيما بعد قصتهم في روايته الأولى المدوية (أيام الإنسان السبعة) التي صدرت في عام 1969، ثم ظلوا يظهرون على أنحاء مختلفة بعد ذلك في رواياته وقصصه القصيرة.
(أيام الإنسان السبعة) تسرد قصة جماعة "الدراويش" بقيادة الحاج كريم منذ وعاها الطفل عبد العزيز ـ راوي قاسم الذي يتكرر بعد ذلك في أكثر من عمل أدبي ـ وما حدث لهذه الجماعة حتى انهيارها بموت الأب المحبوب. كل فصل يمثل لحظة في تاريخ الجماعة وفي وعي الراوي، بحيث نرى عبد العزيز طفلًا مبهورًا بأبيه وجماعته، وغلامًا يلج في عالم المراهقة، ونضج حسه بأشواق مبهمة نحو المرأة، ويبدأ في السير وحده، والتحديق في كل شيء حوله، وطرح الأسئلة عن العالم والله والأب والأم، حتى تصل إلى لحظة ينشق فيها وعيه بين الجماعة والعالم الحديث، عالم المدينة السريع القاسي، وتنتهي الرواية بمرض الأب وموته ومحاولة الراوي للتكيف مع العالم المتغير.
وفي مقابل التطور الخطي لوعي البطل، يرى القارئ الجماعة في ليالي "الحضرة" ويتعرف على أهم أعضائها، ويلمس ما يعانونه في بحثهم عن الرزق الشحيح، وما يفعلونه من طقوس "الخبيز" والاستعداد للسفر إلى طنطا، ثم وصولهم إلى المدينة حيث مقام السيد البدوي، وعلاقتهم بأهل المدينة في هذا كله تكتب، ربما للمرة الأولى، الحياة المهمشة التي يحياها الدراويش الفقراء، ورؤيتهم للعالم، ورؤيتهم "للدين" من خلال معرفة وثيقة وخبرة ممتدة بهذا النمط من التدين الشعبي، وعبر خطاب روائي يجد حلوله المبتكرة في تنظيم الزمن الروائي وتكوين الشخصيات. ويجد القارئ نفسه أمام وقفة كثيفة مجازية، مثقلة بالمعاني، ومتناصة مع الموروث الصوفي في السرد والقصائد. ولذلك كانت (أيام الإنسان السبعة) إعلانًا عن كاتب له صوته الخاص المتميز.
هذا فيما ظل فضاء روايات قاسم وقصصه فضاءً ريفيًّا في المقام الأول، لكنه مكتوب من منظور وعي حديث أي حضري وإشكالي، هذا الفضاء تزحمه طقوس الموت والميلاد، والرحيل والعودة، والثواب والعقاب لكنه ليس عالمًا ثابتًا، وما فيه من تفاصيل ليس ديكورًا يقبل أي معنى. إنه فضاء عتيق وقديم حقًا، لكنه موصول بما يجري في الحاضر، في قَصص سكانه وأغانيهم ومعتقداتهم في الموت والثواب والعقاب، فهو لا يرغب في نفي غيره بل يصر فقط على اختلافه، وعلى الذود عن هذا الاختلاف.
وقد صوّر قاسم هذا الفضاء، روايات وقصصًا ومسرحًا، مدركًا أنه يكتب عن المرض والصحة، القبح والجمال. فهو فضاء متصالح مع تفاصيله وعناصره، وبرغم اختلافه إلا أنه فضاء بشر يمارسون الحياة بوصفها هبة يجب التمتع بها والذود عنها ضد العطب؛ الفقر والمرض وتسلط الناس على الناس. نجد ذلك في قصص نشرت منجمة ثم ضمتها كتب كان قاسم يسميها "دواوين قصص"، فالقصة القصيرة لدى قاسم "نثر مكثف"، مصبوب في لغة مشبوبة طقسية، لا شروح ولا تعليل، بل جسد عضوي صلب وثقيل، خلق وكتب تحت وطأة انفعال ظل يتكون، حتى تفجر، فأصبح جديرًا بأن يضمه "ديوان قصص".