الاتفاقية الإبراهيمية لقيت تأييدا واسعا وإجماعا في الداخل الإماراتي والبحريني، ووجد فيها الإسرائيليون ما يجعلهم يؤيدون قرار حكومتهم.
في كل المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تبرم بين الدول سواء كانت في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف يكون لها عادة جانبان: ما نصت عليه الاتفاقية أو المعاهدة من اتفاق على أمور واجبة التطبيق، والآثار التي يخلفها على الأطراف ذاتها وعلى البيئة الدولية المحيطة به. الجانب الأول ربما يكون الأكثر سهولة لأنه مستند إلى نصوص موقع عليها، حتى ولو حصل الاختلاف أحيانا على تفسيرها، إلا أنه في العادة يكون مستندا هو الآخر إلى نصوص عالمية محددة التعريفات والأمور الفنية. الجانب الثاني أكثر تعقيدا، لأنه مرتبط بشبكة من العلاقات الاجتماعية والسياسية الداخلية التي تتأثر بالخطوة الجديدة، كما أنها تفرض على أطراف دولية وإقليمية أخرى أن تعيد حسابات مصالحها وكيفية تعظيمها في الواقع الجديد. الاتفاق الإبراهيمي بين الإمارات والبحرين من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى مثل واقعا تاريخيا جديدا يقوم على السلام بين طرفيه، وهي حالة لم تكن قائمة قبل التوقيع على المعاهدة، ومن ثم فإن الانتقال إلى الواقع الجديد يبدأ من الأصداء الأولية في داخل الأطراف الثلاث والتي كانت في معظمها إيجابية وبها قدر غير قليل من الحماس. وبالمقارنة مع اتفاقيات ومعاهدات سابقة، فإن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية رغم تأييد غالبية المصريين إلا أن أقلية معتبرة كان لها رأي آخر، وهذه أثرت على تناول الدولة المصرية للموضوعات الخاصة بتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل. حدث ذلك بشكل أقل بعد اتفاقيات أسلو بين السلطة الوطنية الفلسطينية والتي حبذتها منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح؛ بينما عارضتها فصائل فلسطينية أخرى عملت على الإطاحة بها. الاتفاقية الإبراهيمية لقيت تأييدا واسعا وإجماعا في الداخل الإماراتي والبحريني، ووجد فيها الإسرائيليون ما يجعلهم يؤيدون قرار حكومتهم بوقف عملية ضم الأراضي الفلسطينية. في مثل هذه الحالة يكون متصورا تطبيق المعاهدة خاصة فيما يتعلق بجوهرها الخاص بالعلاقات الثنائية بين الطرفين التي لها جانبها الأمني والآخر التعاوني في قطاعات الاستثمار والسياحة والرحلات الجوية المباشرة والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة والرعاية الصحية والثقافة والبيئة وإنشاء سفارات متبادلة وغيرها من المجالات ذات الفائدة المشتركة.
وفقا للسوابق في اتفاقيات ومعاهدات السلام فإن كل هذه المجالات المتنوعة سوف تدفع البلدين لتوقيع اتفاقيات جديدة خاصة بكل مجال إذا ما أريد الدفع والتقدم السريع، وفي أحيان أخرى فإن الدول تفضل وضع مذكرات تفاهم لوضع خريطة طريق لبحث جوهر التعاون وتحديد الأطر اللازمة لها. وفي حدود المعلومات المتوافرة حاليا فإن الطرفين الإماراتي والإسرائيلي كانا حريصين على إرسال الإشارة إلى أنهما بالفعل يعنيان السلام والتعاون لأنه سوف يحقق لهما مصالح عديدة. ولعله لم تكن هناك صدفة أن الإمارات وإسرائيل بدأتا الحديث عن التعاون في مواجهة الفيروس التاجي والأمراض المعدية بشكل عام، وفي أعقابه مباشرة فإن أول الاتفاقيات التي عقدت كانت بين جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي التي هي أول جامعة في العالم متخصصة في هذا المجال، مع معهد وايزمان للعلوم المرموقة، من أجل تعزيز خبرات المؤسستين وتطوير وتوظيف إمكانات الذكاء الاصطناعي في معالجة التحديات العالمية الملحة، مثل جائحة "كوفيد-١٩" وتغيير المناخ وغيرها. اختيار الجامعة كان اختيارا ذكيا من الجانب الإماراتي، أولا للمجال الذي تعمل فيه الجامعة الذي هو جديد ومستقبلي وهو ما يعني النظر إلى الأمام؛ وثانيا لأن الجامعة مقرها مدينة "مصدر" في أبوظبي، وهي المدينة التي تدار كلها بالطاقة الشمسية، وتعتبر مثالا للتقدم العلمي والنزعة المستقبلية ربما في العالم العربي كله. الإشارة هنا من البداية هي للقدرة العلمية لدولة الإمارات التي تضاف إلى كثير من عناصر القوة في مجالات اقتصادية وتكنولوجية عديدة. واستنادا إلى هذا المثال فإن الخفوت ليس متوقعا في المستقبل القريب على الأقل فيما يتعلق بمجالات التعاون التي حددتها المعاهدة؛ وخاصة أنها تعطي للإمارات علاقة مباشرة مع التقدم العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي، وإنما فوق ذلك تعطي نافذة على البحر الأبيض المتوسط ومن ورائه أوروبا كلها. على الجانب الآخر فإن إسرائيل سوف تجد لنفسها محطة هامة على الطريق الجوي والعالمي إلى آسيا، فضلا عن الاستفادة من الطاقات الكبرى لدى الإمارات في مجالات بعينها لإدارة الموانئ والخدمات الجوية والسياحة، فضلا عن النفط والغاز بالطبع، على المستوى العالمي.
الاتفاق الإبراهيمي غير البيئة الإقليمية العربية التي تعاملت معه بدرجة عالية من النضج عندما رفضت الجامعة العربية الطلب الفلسطيني لإدانته رغم الحملة الدعائية الضخمة لمعارضته التي شنتها السلطة الوطنية الفلسطينية بالتعاون مع المنظمات المتطرفة مثل حماس والجهاد الإسلامي، وكل من تركيا وقطر ومنظمات مثل حزب الله. السؤال الذي بات ساريا في المنطقة والعالم لم يكن كما حدث في الماضي حول من الذي سوف يرفض أو يقاطع، وإنما من الذي سوف يلحق بالمعاهدة، وهنا تراوحت أسماء الدول حسب علاقاتها مع الولايات المتحدة، وما تراه من مصالح خاصة بها تريد مقايضتها باللحاق بالمسار الإبراهيمي. مثل ذلك مفهوم، وفي الحقيقة فإن قدرات الدول على صياغة مصالحها هي أول الخطوات نحو إقامة منطقة سلام في الشرق الأوسط. ولكن الواضح، وفي الأغلب الأعم فإن اللحاق بالمسيرة هي مسألة وقت؛ ولكن القاعدة العامة في مثل هذه الأحوال فإن استمرار هجوم السلام، أي تنفيذ المعاهدة، وفتح مجالات جديدة فيها، هو ما سوف يضيف المزيد من الأطراف إلى العملية السلمية في الشرق الأوسط ويجعلها تنتصر على الدفع المضاد الذي تقوم به الأطراف المعادية للسلام في المنطقة وتحاول بناء تحالف سياسي يضمن استمرار الصراع والعنف. اجتماع فتح وحماس في تركيا ليس مقصودا به حقا إجراء الانتخابات الفلسطينية، وإنما وضع خط لمعارضة معاهدات السلام.
المؤكد أن الدبلوماسية الإماراتية، وأيضا البحرانية، قد حققتا إنجازا كبيرا ببدء عملية تاريخية لتحقيق السلام والرخاء في المنطقة؛ ولكن كما يقال فإن عمليات السلم عادة مثل راكب الدراجة الذي يصعد التل، فبات عليه دائما أن يستمر في الصعود حتى يصل إلى القمة وإلا انحدر إلى الخلف. وجزء من هذا العزم سوف يأتي باستخدام كافة مشروعات التعاون الثنائي لفتح الأبواب أمام دخول العرب والمسلمين إلى القدس والأراضي الفلسطينية، وإتاحة فرص أكبر لعمل الفلسطينيين سواء هؤلاء الذين يعيشون في إسرائيل ويشكلون ٢١٪ من سكانها، أو هؤلاء الذين يقدمون إليها من الضفة الغربية. الاستثمارات الإماراتية خاصة وعامة بالإضافة إلى جدارتها الاقتصادية، فإن تواجدها قدر الإمكان في مناطق تشجع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتخلق مناخا ثقافيا يسمح بتداول الأفكار الجديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية، مثل إقامة اتحاد كونفدرالي دون الضغوط التي تسعى دوما للتعامل الصفري في أبعادها المختلفة سوف يفتح آفاقا جديدة للفلسطينيين. إقليميا فإن التعاون والتشاور والتنسيق مع الدول التي وقعت معاهدات سلام مع إسرائيل سوف يقيم جسرا للسلام ما بين منطقة الخليج، ومنطقة دول منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط يعطي إسرائيل الفرصة للتعامل من منطلقات جديدة مع المنطقة كلها، قائمة على تعزيز مصالح مشتركة وتوسيع فرص الرخاء في المستقبل. الاتفاق الإبراهيمي خلق فرصة، وفتح نافذة، لتجنب صراعات وحروب طالما ساهمت في تأخر المنطقة وتخلفها، وآن الأوان لتجاوز ذلك بما يجري من إصلاح داخلي في دول عربية كثيرة، وتوفير الظروف والشروط المواتية للأمن الإقليمي القائم على السلام والتعاون من ناحية أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة