راحت هذه العشائر تمارس سلطتها من خلال استحواذها على السلاح إلى درجة مكنتها من شن الحروب الصغيرة ضد بعضها.
ما يزال ضعف الدولة يلقي بآثاره على المجتمع العراقي بصورة سلبية للغاية، ما ينتج آثارا بعيدة المدى في بنية المجتمع العراقي الذي بدأ يعاني من تصدعات كبيرة في الوقت الراهن. وفي حالة ضعف القانون والقضاء، وتراجع دور الدولة، ظهرت العشائر كقوة مجتمعية واضحة المعالم في تأثيراتها على تشكيل المجتمع العراقي. ويعود هذا الضعف وتدهور هيبة الدولة إلى سقوط مؤسساتها مع سقوط النظام السابق، علما أن هذه المؤسسات تبلورت وتشكلت منذ عام 1921 أي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وولادة المجتمع المدني، إلا أن الانقلابات العسكرية لم تسمح بنموه وتطوره، مما سمح للتيارات المتعصبة والمتخلفة أن تأخذ طريقها إلى العشائر بدلا عن المجتمع المتنور.
وبدلا من تطوير عمل تلك المؤسسات وبعث حيويتها من جديد في نبية المجتمع العراقي، تم استهدافها وتحطيم بنيتها التحتية حتى تلاشت من الحياة الاجتماعية في العراق وعمّت الفوضى.
وهكذا ظهرت "الدّكة العشائرية"، التي سحقها المجتمع المدني ولم يعد لها أية قيمة تُذكر، وهي تقليد قديم يعود لقرون سحيقة، لكن ظهورها في الواجهة له أكثر من معنى. ثم أصبح العمل بها جاريا من خلال تحكمه بمصائر العراقيين في ظل غياب القانون والدولة. وراح الناس يحتكمون إلى رؤساء العشائر الذين خفت دورهم في ظل تطور المجتمع المدني قبل عام 2003. و"الدّكة العشائرّية" عمل بربري وسلوك إرهابي يعمل على ترويع الناس ومقايضتهم بالأموال عن أفعال يمكن للقانون التعامل معها، كما هو في المجتمعات المتطورة التي يحكمها القانون. لكن في العراق، يؤدي تطبيق القوانين العشائرية المتخلفة إلى إنتاج ضحايا بالآلاف، وتشريد عوائل من بيوتها تحت ذريعة تطبيق قوانين العشائر.
برزت العشائر العراقية في الظروف التي عرفها العراق بعد الاحتلال كقوة توازي سلطة الدولة، بل تتفوق عليها، لأنها أكثر سلطة وتأثيرا في نفوس الناس الشعبيين. انعدم تأثير العشائر ولم تعد لها قيمة اجتماعية في فترات مر بها العراق، إلا أنها عادت للظهور في زمن غياب الدولة وهيبتها، وراحت تمارس سلوكا غير حضاري يتنافى والقيم التي تربى عليها العراقيون، وخاصة في بغداد بكل ما فيها من حضارة ورقيّ عند البرجوازية العراقية المتنورة. راحت هذه العشائر تمارس سلطتها من خلال استحواذها على السلاح إلى درجة مكنتها من شن الحروب الصغيرة ضد بعضها، بل وتواجه سلطة الدولة. ولم تسع الحكومات المتعاقبة إلى وضع حد لتوسعاتها في المجتمع العراقي. ومع انتشار الفوضى، ازداد دور العشائر وسلطتها ونفوذها حتى حلت محل الدولة في المنازعات الصغيرة بين الأفراد، وهذا اللجوء إلى العشائر جاء من غياب الدولة ومؤسساتها التي تآكلت بسبب تراكم الحروب والانقلابات، وتدفق السلاح من جميع المنافذ إلى العراق.
ولم تعد العشائر تحوز الأسلحة البدائية كالسيوف والرماح والسكاكين والخناجر والعصي و"المكوار والصخرية والفالة"، بل تعدت إلى امتلاك الأسلحة النارية بكافة أنواعها، بل وصل الأمر إلى استحواذها على قذائف آر. بي. جي. 7 المضادة للدبابات، مدافع الھاون، والمدافع المضادة للطائرات. وساعدت أوضاع العراق المضطربة على حيازة هذه الأسلحة حيث أثرت الحرب العراقية الإيرانية بتداعياتها، وكذلك عقب حرب الخليج الثانية، وازداد تسلّح العشائر بعد عام 2003 في أبريل/نيسان، بعد نهب مئات المخازن من أسلحة الجيش العراقي السابق والأجهزة الأمنية، وفي عام 2014 استحوذت العشائر والأفراد على الأسلحة عندما ترك الجيش معداتة وأسلحته أثناء غزو داعش للمدن العراقية. والنتيجة أن ملايين القطع من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة انتقلت إلى يد العشائر، وهذا ما أدى إلى تغذية ظاهرة العنف والنزعات العشائرية المسلحة.
وأصبحت العشائر الآن تمتلك جيوشا كبيرة وأسلحة قد تفوق أسلحة الجيش وباقي القوات العسكرية، خصوصا في المحافظات الجنوبية، بسبب طغيان الطابع العشائري على سكانها، إضافة إلى الفصائل والميليشيات المسلحة المتنفذة التي ساهمت في تسييس الطابع العشائري، والسيطرة عليه، وتحويله إلى طابع سياسي. وبدأت العشائر وأفرادها المتنفذون يتدخلون في شؤون الدولة، وباتت معظم المؤسسات الحكومية تخضع لها.
أما الحكومة الحالية التي يقودها مصطفى الكاظمي وبعد أن قام بإجراءات كبيرة في ميادين عديدة، لم تتطرق إلى موضوع سلاح العشائر لأنها تدرك أن له خصوصية خطيرة، ولا تريد الحكومة فتح أبواب جديدة في خضم المشاكل التي تواجهها في الوقت الحاضر. وتدرك الحكومات المتعاقبة أن التعرض لسلاح العشائر قد يُسبب فوضى عارمة في جميع مجالات الحياة، لأن بعض المليشيات الداعمة لها تنحدر من هذه العشائر، والتي تشكل جزءا من بنيتها.
في النهاية، هذا الانفلات غير المسبوق لسلطة العشائر من شأنه أن يهدد سلطة الدولة. ولا يوجد في نيّة الأحزاب فكرة تأسيس بناء دولة مدنية، فما بالنا بتأسيس الدولة العلمانية القائمة على القانون في بلد حمورابي الذي علّم البشرية جوهر القانون في مستلته الشهيرة. لكن لا أحد يلتفت إلى تراثنا الثري في سن القوانين على مر التاريخ.
إلى مَنْ يلجأ الناس، إلى سلطة العشائر أم إلى سلطة الدولة؟
هذه الحيرة لا يجيب عليها إلا تطور الواقع السياسي في الأيام المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة