نشأ الأزهر في مصر كمحاولة لنشر التشيّع وتعليمه في أوساط أهل السُنة، ولكن بسقوط دولة العبيديين تحول إلى منارة سنيّة في العالم الإسلامي
نشأ الأزهر في مصر كمحاولة لنشر التشيّع وتعليمه في أوساط أهل السُنة، ولكن بسقوط دولة العبيديين في مصر تحول إلى منارة سنيّة في العالم الإسلامي، ينتشر نورها في أرجائه، ويحمل علماؤها راية العلم في البلاد.
لم يكن الأزهر منارة مصرية فقط؛ بل امتاز بعالميته، وكان بعض شيوخه من غير المصريين، ودرس في أروقته وتتلمذ على أيدي علمائه الآلاف من غير أبناء مصر؛ بل إن هناك قضية مثيرة للجدل الآن في مصر، عن وجود رواق في الأزهر كان يُطلق عليه «رواق الأقباط»، خُصِّص لأن يتلقوا بعض العلوم فيه.
سجّل التاريخ للأزهر في كثير من عهوده أدواراً بارزة، اتخذت أشكالاً وطنية مختلفة، في طريق رفع الظلم الذي يقع على عوام الناس، الذين كانوا يستنجدون بعلمائه لرفع الغبن الواقع عليهم.
هل يجيء مؤتمر الأزهر لنصرة القدس بعد ثمانٍ وأربعين ساعة من ظهور هذه الكلمات للنور، استمراراً لدور الأزهر في تنبيه الناس ورفع الالتباس تجاه واحدة من أهم القضايا التي تمس قلوب العالم العربي والإسلامي، أي قضية القدس الشريف، وموقعها وموضعها في حاضرات أيامنا، وبصورة خاصة بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، باعتبارها عاصمة موحدة لدولة إسرائيل؟
مؤكد أن ذلك كذلك، ولعل المختلف والمثير هذه المرة هو أن القائمين عليه لم ينحوا جهة الخطابات الإنشائية البلاغية؛ بل عمدوا إلى مشاغبة ومشاغلة التفكير عبر ثلاثة مرتكزات فاعلة؛ الوعي، والهوية، والمسؤولية.
ما يميز مؤتمر الأزهر الخاص بنصرة القدس عن دونه من الفعاليات الأخيرة، أنه يسلك طريق المعرفة لبناء توجه حضاري للدفاع، توجه بعيد عن الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة وفلسفة الطبلة والربابة.
أما الوعي، فقد ضاع كثير من ملامحه ومعالمه وسط غبار الطريق، منذ عام 1948 وحتى الساعة؛ لا سيما في ضوء عدم الاعتداد الإسرائيلي بالقرارات الأممية، مرتكنة في ذلك إلى دعم أميركي سادر في غيه، ولهذا فإن إعادة إحياء هذا الوعي تعني، ومن جديد، تذكير العالم عامة والأجيال العربية والإسلامية خاصة، بقضايا جوهرية من عينة «المركز القانوني الدولي للقدس»، والدور السياسي اللازم لاستعادة هذا الوعي، عطفاً على الدورين الثقافي والتربوي لتبيان خصائص القضية، ناهيك عن الدور الإعلامي الذي لا مفر منه، إن أردنا استرجاع الوعي السليب بكل ما خص ويخص مدينة السلام عبر القرون المنصرمة.
على أنه لا وعي دون وضوح للهوية، وهذا ما ستركز عليه نقاشات المؤتمر، والتأكيد على الهوية العربية للقدس ورسالتها، وهو خط عريض تشتق منه حوارات ونقاشات رصينة، كالحديث عن «المكانة الدينية العالمية للقدس»، وتناول حضارة المدينة المقدسة في التاريخ، قديمه وحديثه، بل إن المؤتمر يتوقف عند نقطة جوهرية، هي أثر تغيير الهوية في إشاعة أجواء الكراهية.
ولعل القرار الأميركي الأخير يدلل بما لا يقبل الشك، كيف أن التوجهات السياسية الظالمة تزرع الأحقاد ولا تطفئ النيران بين أبناء الأديان الإبراهيمية، لو يعلمون! ومن هنا تتبقى مهمة تفنيد الدعاوى المنحولة حول تاريخ القدس بنوع خاص، وفلسطين بشكل عام.
الوعي والهوية لا بد أن تستتبعهما بالضرورة المسؤولية، وهنا فإنه لا يمكن الصمت أمام الاضطهاد الواقع على القدس والمقدسيين، ما يفيد بضرورة التحرك الأممي بداية عبر المنظمات الدولية، بالإضافة إلى مخاطبة الضمير الجمعي للمجتمع الدولي. ومن حسن الطالع، فقد أظهرت غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة رفضها الواضح لمحاولة تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، جغرافياً وديموغرافياً، على الأرض الفلسطينية المقدسة، في التصويت الأخير الذي جرى في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
تعني المسؤولية في شأن قضية القدس بنوع خاص: إقامة شبكات إنسانية، ودينية، للدفاع عن القدس التاريخية، وذلك عبر أنسنة الإشكالية دون تمذهب أو تعصّب، وهي اللغة التي يفهمها العالم من حولنا ويقدّرها حق التقدير، ويسعى لاحقاً في نصرة أصحابها، بغض النظر عن الإيمان أو المعتقد. إنه فن كسب الأصدقاء وتقليص الأعداء، ونحن في مواجهة ساخنة مع قوى التجبّر والتكبّر.
ما يميز مؤتمر الأزهر الخاص بنصرة القدس عن دونه من الفعاليات الأخيرة، أنه يسلك طريق المعرفة لبناء توجه حضاري للدفاع، توجه بعيد عن الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة وفلسفة الطبلة والربابة.
أحسن الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، حين أشار إلى أن عمق المشكلة الخاصة بالقدس يتصل بأننا - كعرب ومسلمين - غير مهيئين للتعامل مع القضية بالجدية الملحّة، وسبب ذلك هو الأمية الثقافية التي وقع فيها شباب العرب والمسلمين، في مقابل فريق آخر لديه الحظ الوافر من المعلومات، بغض النظر عن كونها صحيحة أو مضللة أو مغلوطة، ولكنها كونت لديه رؤية وصورة ذهنية على أسس تاريخية، جعلت عنده استعداداً للدفاع والتضحية من أجل قضيته، بينما شبابنا لا يعرف شيئاً عن هذه القضية.
يأمل المشاركون في مؤتمر الأزهر في توصيات عقلانية، من شأنها دعم القضية الفلسطينية، والتأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن الإنجاز الحقيقي الذي سيُحسب للقائمين عليه والمشاركين في أعماله بحق، هو خروجهم بمقرر دراسي واحد، يدرس في كافة أنحاء العالم العربي، يوعي النشء بقضية القدس وتاريخها ومقدساتها.
المعرفة هي القضية... المعرفة هي الحل.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة