عشت في قلب الصراع العربي الإسرائيلي أكثر من 25 عاما باحثا ومفاوضا وانتهيت لضرورة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية من خلال سياسة المبادرة
عشت في قلب الصراع العربي الاسرائيلي أكثر من 25 عاما باحثا وأكاديميا ومفاوضا، وأشرفت على عشرات من الرسائل العلمية عن واقع ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، وانتهيت لضرورة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية من خلال سياسة المبادرة والاستباق وليس رد الفعل أو التوقع، وهو ما دفعني مؤخرا لمطالبة فضيلة الأمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب بضرورة إصدار فتوى تبيح زيارة القدس، وأن تفتح أبوابها للعرب من المسلمين والمسيحيين، وأن يقوم بزيارتها كل عربي مسلم ومسيحي، وألا نتوقف أمام الذين يطالبون بمقاطعة الزيارة وإعطائها بعدا سياسيا وليس دينيا، وفي إطار التمسك بالحقوق العربية والإسلامية التي يحاول الكيان الإسرائيلي رفضها والتعامل معها على أنها أرض يهودية استثمار للحظة التي تمر بها المنطقة العربية، في هذا الإطار أضع بعض النقاط على الحروف.
1. ليس في القيام بالزيارة تطبيعا دينيا، كما يحذر البعض لأن هؤلاء يرتكنون على نظرة سطحية ليس لها أصل، بل بالعكس تكرس لفكرة الاحتلال الدائم والمستمر، والذي لا يزال متمسكا بالأرض، ومن ثم فإن رفض الاستمرار في إتمام الزيارة ينقل الملف من بعده الديني إلى بعده السياسي، فتتم المقاطعة التي تريدها إسرائيل بالأساس، وتسعى لتكريسها باعتبارها أرض يهودية خالصة تدعمها مزاعم يهودية باطلة، خاصة وأن القرار الأمريكي الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، سيعطي لإسرائيل الاستمرار في مخططها القائم على تكريس سياسة الأمر الواقع، وتبني استراتيجية 2050 في إطار مخطط التهويد الكامل بعد إتمام استراتيجية 2020، والتي نجحت إسرائيل في إنجاز مراحل متقدمة منها على أرض الواقع، وهو ما تريده إسرائيل، وتراهن عليه.
إن الاستمرار في نهج المنع والرفض لزيارة القدس يعطي الفرصة لإسرائيل في تنفيذ مخططها، خاصة فيما يتعلق بالخطط المستقبلية، وتكفي الإشارة هنا إلى ما ذكرناه سلفا عن مخطط القدس 2050 وهي الخطة الأشمل لإنهاء الحضور العربي على الأرض، مع طمس هوية المواقع الإسلامية والمسيحية في المدينة المقدسة
2. عودة للدعوة لزيارة القدس، أذكر أنه في مراحل زمنية معينة توافقت الكنيسة والأزهر على عدم السماح بأي زيارات إلى القدس، ومع ذلك كانت تتم هذه الزيارات وبأعداد كبيرة مخالفة لنص الموقف الذي كان يأتي عبر سياق عربي وإسلامي، واستمر هذا الأمر لسنوات طويلة نجحت إسرائيل في تكريس سياستها والتأكيد على أن القدس أرض يهودية، وهو ما منحها في توقيتات محددة ومرحلية ومخطط لها جيدا في البدء في تنفيذ المخططات الشيطانية في التهويد، والحفر والقيام بإجراءات متعددة في تغيير معالم المدينة ومداخلها التي لم يعد لها وجود والتي حصرت في أسماء الأبواب التاريخية وإن تم تغيير الطرق والشوارع بأسماء يهودية، وأذكر أنني زرت المدينة التاريخية منذ سنوات أثناء المفاوضات العربية الإسرائيلية، عندما كان هناك لجنة في المفاوضات متعددة الأطراف تعرف بلجنة القدس، والتي كان منوط بها وبالأساس تحديد معالم ومستقبل المدينة وهالني أن أجد ما شاهدته من مخطط تغيير شكل المدينة التاريخية عبر بناء وتشييد آلاف الوحدات السكنية التي شيدت وبنيت، إضافة للبدء في مشروع الحفر للبحث عن الهيكل المزعوم، والتخطيط في إخراج المدينة من أي حسابات للتفاوض، وهو ما جرى بالفعل بعد ذلك بسنوات، واليوم يتغير الأمر بصورة كلية من مخطط تغيير الطرق وإقامة المستوطنات والسعي لطرد آلاف الأسر المقدسية من مواقعها وإتمام المصادرة، وهو ما سيحدث خللا حقيقيا في ديموجرافية المدينة.
3. إن الاستمرار في نهج المنع والرفض لزيارة القدس يعطي الفرصة لإسرائيل في مخططها خاصة في الخطط المستقبلية الراهنة، ويكفي الإشارة هنا إلى ما ذكرناه سلفا عن مخطط القدس 2050، وهي الخطة الأشمل لإنهاء الحضور العربي على الأرض مع طمس هوية المواقع الإسلامية والمسيحية في المدينة المقدسة، والخطة تعرف باسم خطة ماروم 2050 باعتبارها خطة حكومية ستنفذها سلطة تطوير القدس التي تهدف إلى ترويج القدس كمدينة عالمية ورائدة في التجارة والسياحة، وتعتبر خطة تحول رئيسية للقدس يمكن تنفيذها من خلال العمل مع البلديات والوكالات الحكومية الوطنية الأخرى، وتنقسم الخطة إلى عدة مشاريع مستقلة، سيتم تنفيذ كلٍ منها على حِدة.
4. إن الخطورة المستقبلية تتمثل في استصدار سلسلة القرارات والقوانين والمعروفة بقوانيين تقنين الوضع الإسرائيلي في مدينة القدس، والمنتظر أن تصدر خلال الستة أشهر المقبلة بهدف تأكيد الحضور القانوني وتكريسه لصالح الجانب الإسرائيلي، والعمل على عزل القدس الشرقية عن المراكز العمرانية الحضرية والريفية الأخرى في الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال تطويق المدينة بأحزمة بشرية استيطانية، والضغط على المقدسيين لدفعهم إلى إقامة المساكن خارج الحدود البلدية للقدس الكبرى، أو الانضمام إلى الشتات الفلسطيني في الخارج.
5. إن تنفيذ القرارات المباشرة والصادرة من قبل الحاكم العسكري للقدس والخاصة بترحيل آلاف الأسر المقدسية من مناطق تجمعهم إلى مواقع خارج منطقة القدس بهدف التأثير المباشر على الخريطة السكانية في القدس، وفرض واقع سياسي ومجتمعي جديد، وبما يقر بتحويل القدس الكبرى إلى عاصمة مركزية لإسرائيل ، تتركز فيها كل العوامل الجاذبة لاستقطاب النشاطات الاستثمارية والسياحية والصناعية والزراعية لليهود من جميع أنحاء العالم، ومن ثم فإن إقرار مشروع القدس الكبرى بتوسيع حدود بلدية القدس لتشمل المناطق الممتدة من رام الله شمالاً إلى بيت لحم جنوبًا، وقد أطلق على هذا المشروع اسم مشروع إسرائيل القيادة، وهو يمثل الحزام الاستيطاني الثاني حول مدينة القدس بعد أن كان الحزام الأول قد تحدد في الأحياء العشرة التي أقيمت ضمن نطاق أمانة القدس للعام 1967.
6. وما عرضته سلفا إنما هو جزء من المخطط الإجرامي لإسرائيل لتهويد كامل الأراضي العربية وليس كله في القدس، وهو ما يشير إلى تعرض القضية الفلسطينية لخطر حقيقي، ومن ثم فمن الضروري الإسراع بخطة إعلامية عربية ودولية للتنويه بالخطر المحدق بوضع مدينة القدس، وبالتالي فإن الأزهر الشريف وشيخه الجليل عليه أن يبادر إلى إصدار فتوى تجيز الزيارة، ولعل الزيارة الشهيرة للدكتور علي جمعه - والتي فتحت النار عليه- تجاوزها الوقت في ظل الدعاوى الهشة التي يطالب بها البعض بعدم إعطاء إسرائيل الذريعة بالاستمرار في مسار الاحتلال.
7. لقد طالبت الرئيس محمود عباس بأن يتبنى الدعوة بالفعل باعتباره الرئيس المسؤول، وها أنا أطالبه مجددا بهذا خاصة، وأن أعلم التوجهات الإيجابية المطروحة في هذا السياق، وفي ظل ما تتعرض له المدينة من خطر خاصة، وأن إسرائيل ستستثمر بالفعل في الموقف الأمريكي الجائر، ويكفي أن أشير إلى أن إسرائيل أنجزت ضمن توسيع نفوذ القدس مخططات لبناء نحو 60 ألف وحدة استيطانية، نحو 85% منها ستبنى في شرقي القدس لتضاف إلى عشرات آلاف الوحدات الاستيطانية التي أقيمت بالمدينة منذ الاحتلال، لتكون بيئة جاذبة لليهود الذين شيدوا 70 بؤرة استيطانية بقلب الأحياء السكنية الفلسطينية، وعزل وإخراج الأحياء العربية عن مركز القدس بواسطة الجدار الفاصل.
إذن الخطر قائم وعلينا التفاعل معه بجدية.
ليس تطبيعا دينيا أو سياسيا، هذه أرضنا وهذه مقدساتنا، ولا يجب أن نتركها للكيان الإسرائيلي ليؤكد مزاعمه على الأرض ولن أزيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة