التاريخ مسألة نسبية فكل طرف ينظر إلى أحداثه من زاويته الخاصة، من زاوية مصلحته أو ثقافته أو حتى تراثه وتراكماته المعرفية.
ينظر العرب والأتراك إلى تاريخهم العثماني المشترك من زاويتين مختلفتين تماما بل متعاكستين ومتضاربتين أيضا، ومن غير المتوقع في القريب المنظور أن تنتهي الخلافات بين الطرفين حول هذا التاريخ وأحداثه، ليس العرب فقط، بل هناك قوميات أخرى في المنطقة، مثل الكرد والأرمن واليونانيين والصرب، ينظرون نظرة مغايرة تماما لأحداث تلك الحقبة عن تلك النظرة المتجذرة والمتأصلة في وجدان كل تركي يفاخر بتاريخه العثماني القديم.
لكن الفارق هنا، هو أن جميع هذه القوميات تدرك أن هناك خلافا بينها وبين الاتراك حول ذلك التاريخ، لكن وفي المقابل، فإن معظم الأتراك ما زالوا يظنون أن العرب – على الأقل ومن باب وحدة الدين- يشاطرونهم النظرة نفسها إلى تاريخ الحقبة العثمانية.
للتدليل على ذلك أسرد هذه القصة الحقيقية والطريفة، ففي عام 2002 وخلال حصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في المقاطعة برام الله، من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، ذهب للقائه الصحفي التركي المشهور حسن جمال وأجرى معه لقاءً صحفيا، عبّر فيه عن دعم الشعب التركي القوي للقضية الفلسطينية.
وبعد نهاية اللقاء، قال الصحفي حسن جمال "أنا أشعر بالتزام قوي ومسؤولية تجاه هذه المنطقة"، وأضاف موجها الكلام لأبو عمار في تفاخر واضح "فأنا حفيد جمال باشا القائد العثماني المشهور"، لاحظ الصحفي عدم أي رد فعل إيجابي من عرفات على هذه المعلومة، فما كان منه إلا أن ودعه وخرج.
بعدها أبدى ياسر عرفات استغرابه الشديد للمترجم من سبب فخر هذا الصحفي من كون جده هو "جمال باشا" المعروف في التاريخ العربي "بالسفاح" لكثرة من قتلهم من الشباب العرب القوميين الذين ثاروا ضد الحكم العثماني في بلاد الشام وفلسطين؟! فرد المترجم قائلا "لكن ضيفنا لا يعلم شيئا عن صورة جده في التاريخ العربي، كل ما يعرفه هو ما قرأه في التاريخ التركي عن بطولات جده في الجيش العثماني إبان الحرب العالمية الأولى"!.
وفي إحدى حلقات النقاش خلال عام 2009 مع وزير الخارجية التركي حينها أحمد داود أوغلو في أنقرة، سأله صحفي عربي بشكل غير رسمي "ألا يزعجكم تسمية حزبكم وحركتكم السياسية من قبل بعض التيارات العربية بالعثمانيين الجدد؟" فرد داود أوغلو بالنفي، مشيرا إلى أن "العرب" – على حد تصوره – "يكنّون كل الود والاحترام لفترة الدولة العثمانية التي حافظت على الخلافة ووحدة المسلمين"، لكن الصحفي العربي صدمه حين قال له "ألا تعرف أن بعض الدول العربية كانت تعتبر تلك الحقبة احتلالا تركيا؟!"
التاريخ مسألة نسبية، فكل طرف ينظر إلى أحداثه من زاويته الخاصة، من زاوية مصلحته أو ثقافته أو حتى تراثه وتراكماته المعرفية، فالثورة العربية التي تُدرّس في كتب التاريخ العربية والمناهج الدراسية، يتحول اسمها إلى "العصيان العربي" أو حتى "الخيانة العربية" في كتب التاريخ التركية.
بعض القنوات الإخبارية العربية الداعمة للتطرف والتي احترفت الاصطياد في المياه العكرة التزاما بسياسة الدول التي تقيم على أرضها وتمولها لشق الصف وتأجيج الخلافات في المنطقة، أخذت على عاتقها إبراز الخلاف العربي التركي الحالي حول التاريخ العثماني وكأنه قضية الساعة الأهم.
بل إن الخلاف على التاريخ يمكن أن يقع بين أبناء المجتمع الواحد والجلدة ذاتها، فالخلاف قائم في مصر حتى اليوم حول جمال عبد الناصر بين مَن يعتبره بطلا قوميا عربيا، ومن يرى أنه السبب في ضياع الضفة الغربية والقدس الشرقية واحتلال سيناء، وكذلك الخلاف عربيا حول أنور السادات بين من يرى فيه بطل الحرب والسلام، ومن يتهمه بإضعاف القضية الفلسطينية بعد انفراده بالسلام مع إسرائيل.
وفي تركيا أيضا، مازال الخلاف قائما حول تاريخ مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، بين من يُمجّده ويعتبره بطل حرب التحرير ومؤسس الجمهورية الحديثة ومنقذ تركيا من الاحتلال والتقسيم، وبين التيار الإسلامي الذي يعتبر أنه مسؤول عن إسقاط الخلافة وفصل الأتراك عن تاريخهم بعد تبديله حروف الكتابة.
لا يوجد إجماع على شخصية تاريخية واحدة خصوصا إذا كانت هذه الشخصية قائدا عسكريا أو لعب دورا سياسيا أو عسكريا مهما في فترة حرب حاسمة، وستبقى الفترة التي سميت بالعثمانية بفترة "سفر برلك" في نهاية سنوات الحكم العثماني، إبان الحرب العالمية الأولى، ومعناها أقرب إلى "حال الطوارئ" بالعربية، مثار جدل وخلاف بين الأتراك والعرب، ولا عجب في ذلك، كونها كانت حقبة ميلاد الدول القومية من رحم إمبراطورية دينية جامعة.
فكتب التاريخ التركية ترى في تلك الحقبة مؤامرة غربية أوروبية بالتعاون مع عدد من القوميات غير التركية في المنطقة ضد الدولة العثمانية الإسلامية حاملة راية الخلافة، بينما يرى المؤرخون العرب أنها كانت حقبة الجوع والقحط نتيجة سياسات خاطئة للدولة العثمانية، وحقبة تجنيد إجباري قاسٍ في حروب لا يرى العرب أن أحدا استشارهم فيها أو كان لهم أي مصلحة فيها، بل يرون فيها فرصة تبدت لهم للتخلص من حكم سبقهم إلى النزعة القومية في آخر سنوات حكمه، واتهموه بفرض سياسات متخلفة عليهم، والاستئثار بالتنمية والتقدم في عاصمته على البسفور.
وفي بحر هذا الخلاف، تتسابق روايات وقصص البطولة التاريخية التركية لتلك الحقبة، عن الأبطال الأتراك الذين دافعوا حتى الرمق الأخير عن الدولة العثمانية، مع مقابلاتها من قصص وروايات تاريخية عربية عن بؤس تلك الحقبة ومآسيها، ومن غير المتوقع أن يُحسم هذا الجدل قريبا أو حتى على المدى المنظور، لذا يفضل كثيرون التركيز على مستقبل العلاقات بين الطرفين وطي صفحة الماضي.
فيما يرى آخرون أن هذا الأمر قد يبدو صعبا حاليا في ظل وجود سياسة تركية خارجية وتصريحات تظهر للجانب العربي وكأنها تحاول إحياء روح العثمانية القديمة في سياسة اليوم وخصوصا ما يتعلق بدعم التيارات الدينية العربية، تلك التيارات التي لا تفوت الفرصة للاصطياد في الماء العكر دائما من أجل شق الصف وتوسيع الخلافات في المنطقة، خدمة لأهدافها وأهداف الدول الممولة لها.
ملاحظة: بعض القنوات الإخبارية العربية الداعمة للتطرف والتي احترفت الاصطياد في المياه العكرة التزاما بسياسة الدول التي تقيم على أرضها وتمولها لشق الصف وتأجيج الخلافات في المنطقة، أخذت على عاتقها إبراز الخلاف العربي التركي الحالي حول التاريخ العثماني وكأنه قضية الساعة الأهم، والغريب أن تلك القنوات ستتناسى أرشيف الدولة الراعية لها الذي يزخر هو الآخر بقصص وحكايا عما تسميه تلك الكتب "بطرد الحكم التركي العثماني" من أرضهم، وكأن الخلافات العربية التركية حول التاريخ العثماني لا تشملهم هم أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة