ستبقى الكلمة الأولى والأخيرة للجانب الفلسطيني الذي يملك وحده توجيه دفة الصراع
تُكرِّر الإدارة الأمريكية، عن عمد، بعض أفكارها الخاصة بإطار التسوية المقترحة قبل أن تشرع في تقديم وثيقة عمل حقيقية، ربما لن تكون مطروحة في هذا التوقيت، وستظل عناصرها محل تشكيك من الجميع، بما فيهم الأطراف غير المعنية بصورة غير مباشرة مع مسعى الإدارة الأمريكية لاستيفاء مرحلة الاتصالات والترتيبات أولاً، قبل طرح أي تصور، خاصة أن الأطراف المباشرة دخلت في مرحلة جديدة من الصدام السياسي والدبلوماسي المُعلن.
المعركة الراهنة والمتوقعة في الأمم المتحدة بدأت بالقدس، وستمتدّ إلى سائر الملفات الأخرى، والتي ستسعى إسرائيل إلى التعامل المنفرد معها باعتبارها قضايا يمكن السيطرة على تفاصيلها من إجراءات ضم واستيعاب وصهر وإلحاق بإسرائيل وتطبيق القانون الإسرائيلي عليها.
كما أن الأطراف غير المباشرة المؤثرة ستكون لها حساباتها وتقديراتها الكاملة من أي تداعيات لما يمكن أن يجري في الأجواء الفلسطينية الإسرائيلية، وهو ما سيرتب واقعاً جديداً:
1. ليست هي المرة الأولى التي يُعاد فيها تكرار الحديث المباشر عن اختيار مدينة أبوديس لتكون بالفعل العاصمة البديلة للقدس، وهو ما جرى في حقبة التسعينيات عندما بدأت المفاوضات العربية الإسرائيلية بصورة معلنة، ووقتها اُقترِح بأن تكون المدينة التي لا تبعد عن القدس سوى عدة كيلومترات (تقع شرق القدس وملاصقة بها، تبتعد حدودها الغربية عن المسجد الأقصى نحو 2 كلم فقط) وتطل على المواقع الاستراتيجية والدينية مباشرة في القدس، لتكون موقعاً للمجلس الوطني، وبعض المقرات الرسمية للسلطة التي كانت قد شرعت في تنفيذ اتفاق غزة وأريحا أولاً.
إلا أن تيقن القيادة الفلسطينية وقتها لتبعات ما كان يجري وتحذير دول مثل الأردن ومصر، حال دون الاستمرار في التعامل مع أبوديس على أنها العاصمة البديلة، وسرعان ما دخل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي في دوامة المواجهات فتجمّد الأمر تماماً.
2. لم يعد أحد يتحدث مؤخراً عن البديل الآخر للقدس، وهو أبوديس، إلا بعد أن أقرّ الجانب الأمريكي بأن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، ومن ثم فإن التوجه الأمريكي فرض واقعاً سياسياً جديداً؛ أدى بالفعل إلى إعادة تدوير الملفات الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي بأكمله، وبدأ البعض في طرح البدائل القديمة في سياقها التاريخي، ومنها ما تم طرحه بشأن الدولة الواحدة والدولة الديمقراطية والدولة متعددة الأعراق، والدولة ثنائية القومية، وغيرها من المسميات على الطرح القديم الجديد، والذي يُعاد تسويقه سياسياً باعتباره البديل.
وهو أيضاً ما يتكرر بشأن طرح مدينة أبوديس لتكون عاصمة بديلة لقربها من القدس أولاً، وثانياً لأنها البديل العملي المباشر غير المكلف، وهو الذي يمكن أن يغلق باب التفاوض حول مدينة القدس التاريخية كعاصمة للدولة الفلسطينية القادمة، وهو ما يراهن الجانبان الأمريكي والإسرائيلي على حسمه في فترة ولاية الرئيس ترامب على الأقل، وبصورة جازمة.
3. لن تتوقف الإدارة الأمريكية عن طرح بديل للقدس، بل ستعمل على إدارة سائر الملفات الأخرى في منظومة التفاوض تأهباً لما سيجري من تفاصيل، ومنها ملف حق العودة وتقنين وضع المستوطنات. ولعل صدور قانون القدس الموحد مؤخراً، وقرار ضم الأراضي العربية المحتلة لإسرائيل يشير إلى هذا التوجه، خاصة أن سائر الملفات الأخرى تأتي في سياق آخر لا سيما أن التربص الإسرائيلي بوكالة أونروا يجري بهدف المضي قدماً في حرث الأرض بصورة مباشرة على أي خيارات لاستئناف التفاوض، بعد أن أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس تجميد الاتصالات الفلسطينية الأمريكية، وهو ما ردّت عليه واشنطن بوقف المساعدات الاقتصادية المجمّدة منذ عدة أشهر، بل ودفعت الحكومة الإسرائيلية للبدء في دفع عباس إلى حافة الهاوية واحتمال أن يتكرر معه سيناريو المقاطعة، أو إنهاء حياته مثلما فعلت مع الرئيس ياسر عرفات.
4. إن المشكلة لم تعد في استئناف الاتصالات أو اللقاءات العربية الأمريكية، خاصة أن الإدارة حريصة على التواصل الدبلوماسي بالفعل من أجل التمهيد لطرحها القادم، ومن خلال رؤية من جانب واحد وإطار أمريكي إسرائيلي بالأساس، وبهدف فرض الأمر على الجانب الفلسطيني، وعدم الدخول في مناكفات سياسية، وهو تصور قاصر وغير مقبول فلسطينياً، إذ يستعد الفلسطينيون إلى الذهاب للجمعية العامة ومجلس الأمن من جديد، لبدء معركة جديدة للحصول على العضوية الكاملة والالتحاق ب22 منظمة دولية؛ مما يضع إسرائيل في مأزق سياسي وقانوني في التعامل مع الأراضي الفلسطينية على أنها أراض محتلة بالأساس ينطبق عليها قواعد القانون الدولي شكلاً ومضموناً، وهو ما سيضع إسرائيل في معادلة صفرية محدودة، وسيقلّب عليها التنظيم الدولي الذي هو في الأساس ليس أمريكياً فقط، ومن ثم ستسعى الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل لتقويض أركان الأمم المتحدة، وتصدير أزمات متتالية لنشاطها مع محاولة تحجيم نشاطها، وعرقلة مساراتها، وهو أمر لن يقتصر على اليونيسكو فقط بل امتد إلى أونروا ووكالات أخرى، مما يعني أن الولايات المتحدة وإسرائيل قطعتا العزم على المواجهة، وعدم ترك الساحة للجانب الفلسطيني لتأكيد حقه على أرضه.
5. في مثل هذه الأجواء ستسعى الإدارة الأمريكية إلى بناء تفاهمات جديدة في الإقليم بأكمله تجاه حسم إشكالية الصراع العربي الإسرائيلي، وخاصة في قضايا الصراع الهامة والاستراتيجية، وعلى رأسها القدس التي تعد منطلقاً حقيقياً للتسوية القادمة من منظور إسرائيلي؛ مع إعادة التأكيد على إطار التعاون الإقليمي الإسرائيلي، وبناء شرق أوسط لا مكان فيه للصدامات المحتملة، وهو ما يمكن أن يتحقق وفقاً لرؤية الرئيس ترامب ورجال إدارته المعنيين بإدارة الملف (كوشنر –جرنبلات – فريدمان)، وهي رؤية تحتاج إلى مراجعات حقيقية، ولن تتم تحت أي مسمى في ظل تماسك الدول العربية والجانب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره وتنفيذ القرارات الدولية المركزية، والخاصة بإقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس ارتكاناً إلى نص القرار 181 والقاضي بإعلان دولتين عربية ويهودية، وهو القرار الذي أنشأ إسرائيل ذاتها، ولا يمكن أن تتنصل إسرائيل أمام القانون الدولي من نصوص وبنود هذا القرار تحت أي مسمى، والذي سيضعه الرئيس محمود عباس في مقدمة الطلب الفلسطيني الخاص بالحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، بصرف النظر عن القبول أو التحفظ من بعض الدول العربية على هذه الخطوة في الوقت الراهن ...
إن المعركة الراهنة والمتوقعة في الأمم المتحدة بدأت بالقدس، وستمتدّ إلى سائر الملفات الأخرى، والتي ستسعى إسرائيل إلى التعامل المنفرد معها باعتبارها قضايا يمكن السيطرة على تفاصيلها من إجراءات ضم واستيعاب، وصهر وإلحاق بإسرائيل وتطبيق القانون الإسرائيلي عليها مع التنسيق مع الإدارة الامريكية لطرح الرؤية الأخيرة لوثيقة أمريكية شاملة لفرض الحل النهائي للصراع ربما مع نهائيات الولاية الأولى للرئيس ترامب، وهذا ما يُرتَّب له داخل عدد من مراكز البحوث وبيوت الخبرة، ومنها مركزا سابان وبروكينجز .
وستبقى الكلمة الأولى والأخيرة للجانب الفلسطيني الذي يملك وحده توجيه دفة الصراع، والتعامل معه داخل وخارج الأمم المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة