الحالة الحرجة للمدعو "ك".. ألم التجربة ثمن للحياة
قراءة لرواية الكاتب السعودي عزيز محمد "الحالة الحرجة للمدعو "ك" المرشحة لجائزة البوكر العربية هذا العام بعد وصولها للقائمة القصيرة.
باحتراف رجل مُخضرم في ألاعيب الخطر، اختار الروائي السعودي عزيز محمد اللعب بالنار، باستخدامه تقنية السرد البطئ لروايته الأولى "الحالة الحرجة للمدعو "ك"، ليُمهد عالم بطله "ك" على الورق، إذ أنها تقنية يتجنبها كثيرون خشية الوقوع في فخ الملل، ولكن في حالة صاحب الرواية، فقد تحاشى الفخ بل وروّض قارئه على مسايرة إيقاع بطله المغاير بشغف.
غالبا ما تكون الأزمة الدارجة للعديد من الشخصيات الروائية هي تعثرها المتكرر في بلوغ معرفة وطيدة عن نفسها، وفقدان التواصل مع ذاتها وسط تراهات الحياة وفوضاها، وهو مالا ينطبق تماما على حالة بطل رواية "الحالة الحرجة للمدعو ك"، فهو على وعي مفرط بذاته، بذكرياته، برغباته، بأمنياته، بمن يحب، بمن يكره، بما يشعر، وهنا تكمن أزمة البطل الغارق في ذاته تماما.
هل أنت أفضل من كافكا؟
يجد القارئ نفسه شريكاً في مذكرات البطل من الأسبوع الأول وحتى الأسبوع الأربعين، البطل يشاركك كل شيء، لحظات استيقاظه بمشقّة، ملاحظاته المتكررة لآثار بقع داكنة على المخدة، شريكة وحدته، يُجدد كل يوم استعادة وعيه بالمكان، كالغريب، رغم أن أماكنه لا تتغير أبدا، من البيت إلى شركة البتروكيماويات الشرقية التي يعمل بها.
وكما يجدد كل يوم استعادة وعيه بالأماكن، يجدد كذلك وعيه بضرورة الذهاب لعمله المُمل، يقول لنفسه "على المرء أن يكسب قوته بطريقة ما، والشباب يعاني من البطالة، والبيت يحتاج للراتب، وهل أنت أفضل من كافكا؟".
كافكا.. مفتاح رئيسي للرواية، البطل يحيل كل شيء له، فهو كاتبه المفضل، وشخصيته الأثيرة التي تشاركه حياته الرتيبة، يشاركه بسيرته المظلمة الكابوسية التي يجد فيها البطل قبسا من روحه، وهو من ألهم إطلاق رمز "ك" على بطل يومياته، ليحاكي به بطلا من نص "المحاكمة" الشهير لكافكا.
لا تبالغ
في العمل، هو الموظف الصامت، الذي ينتهز أي فرصة لمواصلة كتابة يومياته، فهو رغم أنه درس "تقنية المعلومات" إلا أنه روائي الهوى، أديب بالتكوين، شغفه بقراءة الأدب لا يفتر، بل يزيد، منذ أن شقّ طريقه في القراءة مبكرا، مع شراء الكتب بعد طرح عناوينها على والده للموافقة عليها أولا، والده الذي فارق الحياة وترك حياته مُترعة بالبلادة حياّل كل شئيء، فالأب كما يصفه البطل "كما لو كنت تحدّق إلى قناع، كانت هناك دائما مسافة تفصله عن كل الأشياء".
كلما مرّ البطل بموقف تذكر عبارة والده المفضلة التي كان يطلقها دوما "لا تبالغ"، عبارته الوحيدة لتصويب كل الأمور..تجريد كل شئيء من الزوائد..نزعة محايدة.. كلمة تختصر نشأة البطل الأولى منذ طفولته على عدم الاكتراث بأي شئيء.
يذكر البطل في يومياته الجميع، مديره، زميله العجوز على المكتب المجاور، الجنود المجهولة في العمل، وقت الراحة المحسوب بالثانية، وأي تصرف مكتبي "لكن يجب الحذر من أن تُسمع ضربات أصابعك على الكيبورد أكثر من اللازم، فأنت لا تدري كيف لهذا إذا لوحظ أن يُحسب ضدك"، كما يكتب البطل في يومياته.
بطل الرواية يقظ أكثر من اللازم، وكتمانه لا يسمح ليقظته أن تجد طريقها في الحوار مع أحد حول ملاحظاته، فكان يكتب بانتظام، بدأ بتدريبات كتابية على كل ما يلاحظه، كان ذلك هو ملاذه الآمن الذي تهدده تدخلات العائلة بتلبية نداءات الواجبات الاجتماعية مثل الزيارات العائلية وأحاديثها التي لا يجيدها، والتي يقول "لطالما شعرت بأني أخون ذاتي خلالها".
مازوشية!
كان بطل الرواية يفتقد لتجربة حقيقية في حياته، كان يطالع التجارب في روايات ديستوفيسكي وكافكا وراسكولينكوف..وإلى آخر قائمة مفضليه، كان يطالع بها الحياة، يعيش مرّات، توحد مع الورق فزاده عزلة، وشوقا لأن تكون له تجربته الخاصة، وما كان يدري أن شوقه سيأتي بوخز "الكيماوي" لجسده، وهو يقضي ساعات تحت رحمته بعد تشخيص إصابته بسرطان الدم.
تشرع أزمة مرضه أبواباً من التأمل لدى البطل، وهو المتيم بالتأمل بطبيعته، عن نفسه وعن محيطه وعن ذكرياته، فتفيض ضوءا على علاقته بأمه، وجده، وعمله، وذكرى والده، تضاعفها لمزيد من التساؤلات.
يحسب للرواية أنها لم تجرنا لمنطقة معهودة سلفا في معالجة أزمة مريض السرطان، بل أخذت منحى مغايرا للمعاناة المألوفة في هذه الحالات، فالبطل "ك" ينظر للظرف بعين شخص لامنتمٍ بالفطرة، فهو لا يصرخ عند علمه بإصابته بالمرض الخبيث، وإنما يستدعي فورا خططه الخاصة، فهو حتى من قبل علمه بالمرض كان يتخيل كثيرا بكثير من "المازوشية" فكرة أن مصيبة ألمت به، "فأجد نفسي متلذذا بكيفية تأقلمي مع هذه المصيبة، وكيف ستثمر لاحقا في حياتي".
زوال الأشياء
تجوب مع البطل يوميات السرطان، وألمه، الأطباء، الممرضات، المرضى المجاورين له في المستشفى، ساعات الانتظار، ووسائل تخفيف ساعات الانتظار، نزعته لمقاومة الألم بحسه الساخر الباكي، تراه يُعدد محاسن المرض، شعر بأنه أكثر حرية مما كان في أي وقت مضى فيما يتعلق بالتزامه بدوام عمله الذي يشعر حياله باللاجدوى، وواجباته الاجتماعية الثقيلة، ويعيد تأمل الحرية مع اشتداد نوبات المرض عليه، ويتساءل "كيف للمرء أن يتحدث عن اللامبالاة أو الحرية، في حين أن شيئا بضآلة ذرات الغبار يمكن أن يقلب مصيره وإرادته وحركة أعضائه الداخلية؟" قالها بعد هجوم فيروسي على رئته، ما ساعد عليه ضعف مناعته الشديد.
الخيال الذي يتشح به البطل كان حليفه في أحلك لحظاته، هذا البطل الذي لم يظهر له صديق واحد على مدار الرواية، كان يكتفي بحضور "كافكا" في مخيلته، وسيرته، فيمر على خاطره وهو على فراش المستشفى "أفكر في كافكا، متمدداً على سريره في المصحة، وقد أورثه السل آلاما في الحلق، لم يستطع معها أن يتحدث. كافكا التعيس، وهو يموت جوعا، لأن أنابيب التغذية لم تكن متوفرة".
يطيل البطل اعترافاته الذاتية في يوميات أسابيعه الأخيرة بالرواية، يعترف بأنه كان يرجو الله، بوعي أو بدون وعي، أن يُكسبه تجربة حقيقية خصبة بمصير شقي، يتأمل شهوره الأخيرة وهو قابع لتلقي العلاج، يعترف في جلد للذات "أنا لم أملك يوما شيئا مهما أقوله، وحين أحاول التفكير بما يلخص حياتي لا يخرج من فمي إلا البلاهات".
تسعة أشهر مضت على بداية كتابة "ك" لمذكراته، حزن مختلف هو ما يشعر به الآن..يبحث في قواميس ما طالع في حياته القصيرة عن مرادف له..لا يجد سوى لفظ ياباني تعبير مرّ عليه في قصيدة ومعناه: "الأسى العذب على زوال الأشياء".