التظاهر وتعبير الشعوب عن آرائها وانتقادها سياسة حكامها هي ليست بدعة جديدة بل هي حالة طبيعية وحق مشروع وقديم.
إن التظاهر وتعبير الشعوب عن آرائها وانتقادها سياسة حكامها هي ليست بدعة جديدة بل هي حالة طبيعية وحق مشروع وقديم، ولكن الشعوب والدول تختلف في التعاطي مع هذا الحق؛ فترى بعض الدول أن هذا الحق خيانة ومساس بالأمن والأمان، وترى شعوب أخرى في المظاهرة والتجمهر حالة فوضى وفرصة للانتقام من الحكام. وقليلا ما نجد المظاهرة سلسة منضبطة عندما تكون بهدف تغيير حكم أو حاكم في بلد من البلاد، حتى في الدول المتقدمة والشعوب المتحضرة ذات شعار الحرية المطلقة، يكون التظاهر من أجل هذه الغايات مقلقا إن لم يكن مفزعا. والأمثلة على ذلك كثيرة ولا سيما في الواقع العربي الراهن كما في سوريا واليمن وليبيا التي تحولت المظاهرات فيها إلى أعمال عنف وتطرف جرت البلاد إلى حروب أهلية دمرت الأوطان والشعوب.
هذه العوامل جعلت من الحراك الشعبي الجزائري نموذجا يحتذى به في الرقي والحضارة والديمقراطية، وذلك بتمثيل أعلى أدبيات ثقافة التظاهر والتعبير عن الرأي مع الحفاظ على الدولة ومؤسساتها ومرافقها في الوقت ذاته، واستلهام الدروس والعبر من الحقب السابقة، وقطع الطريق على كل متسلق يحاول حرف الشارع عن مساره السلمي
لقد مرت أسابيع وما زال الشعب الجزائري منتفضا ضد ولاية خامسة للرئيس الجزائري "عبدالعزيز بوتفليقة" في حراك شعبي تحت عنوان "لا للعهدة الخامسة"؛ وتعد مشروعية هذا الحراك الشعبي في الجزائر ومطالبه شأنا جزائريا بيد الشعب الجزائري وحده. ولكن ما يميز هذا الحراك ويجعله يرقى للنموذج الحضاري الراقي الذي يستحق أن يكون قدوة وأسوة هو الانضباط التام والوعي الكامل؛ فعلى الرغم من أن الحراك كان عفويا دون تخطيط مسبق؛ فإنه تميز بالانضباط دون المساس بالمرافق العامة أو إغلاق الطرقات أو التعرض لرجال الأمن أو حتى التلفظ بألفاظ مسيئة سواء للرئيس الذي يتظاهرون ضد ترشحه أو لحزبه الحاكم أو لجهة تؤيد بقاء الرئيس؛ بل على العكس فعلى الرغم من أن المطلب لهذا الحراك هو عدم ترشح الرئيس "بوتفليقة" لولاية خامسة؛ فإن الجزائريين لم يطعنوا ولم ينكروا ما قدمه هذا الرئيس في فترة من الفترات السابقة من حيث النجاح بإدارة دفة البلاد وقيادتها إلى برّ الأمن والأمان، بل هم يتظاهرون اليوم استنادا إلى مبدأ قمتَ بواجبك وأديت ما عليك فافسح المجال لغيرك.
وإلى جانب الانضباط والسلمية المطلقة التي وسمت الحراك الجزائري، اتسم هذا الحراك الشعبي بالوعي التام والذي تمثل بعدم فسح المجال لصعود التيارات المتطرفة واستغلالها للارتباك الأمني والذي يتبين من خلال الشعارات المرفوعة التي لم تتطرق لشعارات دينية أو مذهبية. كما تمثل هذا الوعي برفض المتظاهرين أي تدخل أجنبي، فما إن صرح البيت الأبيض وباريس بالقلق تجاه هذا الحراك وما يحدث في الجزائر حتى علت الأصوات في الشوارع الجزائرية بهتاف المتظاهرين بأن يصمت الجميع ويتركوا الجزائر للجزائريين حكومة وشعبا. وقد كانت هتافات تقطع الطريق على كل من يحاول استغلال الموقف لزرع أجندته في هذا البلد العربي العزيز. لا شك أن الحراك الجزائري ما زال وليدا ولكن لن تكون مبالغة إذا قلنا إنه وإنْ طال سيلتزم بهذا المظهر الحضاري وذلك لعدة عوامل:
أولها: إدراك المؤسسات الأمنية والحكومية في الجزائر حق الشعب في التعبير عن مطالبه وإيمانها بأن ذلك حق مشروع، وتجنب الاصطدام مع المتظاهرين لأن الإرادة الفعلية هي الاحتواء لا التصعيد وإخراج البلاد من أزمتها لا التأزيم. وهو الذي اتضح من أول يوم خرجت فيه المظاهرات حيث لم تسجل أي حادثة لاعتداء رجال الأمن على المتظاهرين أو اعتقال أحد منهم.
ثانيا: الإدراك بأن هذا الوعي والانضباط في الحراك الجزائري ليس مشهدا دراميا أو حدثا وليد الصدفة، بل هو في حقيقة الأمر ثقافة متجذرة وحضارة عريقة كانت باهظة الثمن. فكيف يفرط شعب ببلد ودولة كان ثمن استقلالها أكثر من مليون شهيد، لتسمى الجزائر "بلد المليون شهيد". فشعب ضحى بأكثر من مليون روح من أعز أبنائه من أجل الحرية، يتظاهر أحفاده اليوم في الساحات انطلاقا من رؤية وطنية بقصد بناء بلدهم. ولن يقبلوا بضياع تلك الدماء هدرا.
ثالثا: التعلم من الأخطاء السابقة؛ فالشعب الجزائري عاش تجربة الانفلات الأمني والفوضى والحرب الأهلية التي أنهكته أكثر من عشر سنوات "العشرية السوداء"، والتي امتدت بين عامي 1991 و2002. حيث كان عنوانها الأبرز العنف والفكر المتطرف والتدخلات الخارجية في الشأن الجزائري، والتي كانت منزلقا داميا انتهى بتصالح بين الجزائريين بعد فاتورة باهظة في الدماء وفقدان الأمن. إنها عشرية جعلت المواطن الجزائري يقدم نعمة الأمن والأمان على المأكل والمشرب، والتاريخ ليس ببعيد عنها، فهناك الكثير من المتظاهرين في الساحات الجزائرية اليوم هم ممن عاصر تلك الحقبة السوداء المريرة؛ ما حصن الجزائريين عن أن يقبلوا بإعادتها مرة أخرى.
ويضاف إلى هذه العوامل عامل آخر وهو أن الشعب الجزائري بعمومه شعب متعلم مثقف مزج بين قيم العروبة والإسلام الوسطي القائمة على التسامح والسلام وبين الاطلاع على ثقافات الشعوب المتحضرة وقبول الآخر من خلال احتكاكه بالمجتمعات الغربية بحكم الدراسة والعمل والتعليم والتعلم.
كل هذه العوامل جعلت من الحراك الشعبي الجزائري نموذجا يحتذى به في الرقي والحضارة والديمقراطية وذلك بتمثيل أعلى أدبيات ثقافة التظاهر والتعبير عن الرأي مع الحفاظ على الدولة ومؤسساتها ومرافقها في الوقت ذاته، واستلهام الدروس والعبر من الحقب السابقة، وقطع الطريق على كل متسلق يحاول حرف الشارع عن مساره السلمي البنّاء داخليا كان أو خارجيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة