فرنسا تعترف للمرة الأولى بقتل وتعذيب المناضل موريس أودان، وتقرر فتح أرشيف اختفاء جزائريين وفرنسيين.
في أول رد فعل رسمي من الجزائر، قال وزير المجاهدين الجزائري، الطيب زيتوني، إن اعتراف فرنسا رسميا بتعذيب وقتل مناضل الحزب الشيوعي الجزائري، موريس أودان، هي خطوة "إيجابية".
وأضاف زيتوني أن "الكشف عن أرشيف الجزائر من قبل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دليل على أن مطلب الجزائر حول الأرشيف شرعية".
من جانبها، رحبت جوزيت أودان زوجة المناضل الفرنسي الداعم للثورة الجزائرية، بقرار الرئاسة الفرنسية، وقالت في تصريحات لوسائل إعلام فرنسية "إن هذا الاعتراف سيدخل في إطار محاربة سياسة التعذيب، التي استُخدمت كأداة للقمع ونشر الرعب في العالم".
ففي سابقة هي الأولى من نوعها، اعترفت فرنسا رسميا بتعذيب وقتل مناضل الحزب الشيوعي الجزائري، موريس أودان، إضافة إلى الاعتراف بأن الحكومة الفرنسية (في عهد الاحتلال الفرنسي للجزائر) "شرَّعت التعذيب كوسيلة لتنطيق وقتل المناضلين ومجاهدي الثورة التحريرية الجزائرية".
- وثيقة مسربة: فرنسا نفذت اغتيالات فردية إبان احتلالها للجزائر
- ماكرون وملف الذاكرة الجزائرية الفرنسية.. الاعتراف المبتور
وأعلنت الرئاسة الفرنسية، الخميس، "اعترافها بالمسؤولية الكاملة عن تعذيب وقتل موريس أودان، بعد اعتقاله في بيته بالجزائر العاصمة شهر يونيو سنة 1957"، بعد أن ظلت لسنوات تصر على رواية أن "موريس أودان اختفى طواعية ولم يتم اعتقاله أو قتله من قبل فرنسا"، وهي الرواية التي رفضها عدد من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين.
وتوجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بحسب ما أكدته مختلف وسائل الفرنسية، الخميس، بخطاب رسمي إلى زوجة أودان وأبنائها، أعلن فيه مسؤولية الجيش الفرنسي عن تعذيب وقتل زوجها.
وقرر الرئيس الفرنسي أيضا فتح كل الأرشيف الذي سرقته فرنسا بعد خروجها من الجزائر عام 1962، أمام القضاء الفرنسي.
وطالب كل الشهود الذين عاشوا تلك الفترة أن يقدموا شهاداتهم؛ لمعرفة حقيقة اختفاء جزائريين وفرنسيين بعد اعتقالهم من قبل الجيش الفرنسي المحتل، في الجزائر أو على الأراضي الفرنسية.
غير أن الرئيس الفرنسي اعتبر، في بيان تناقلته وسائل الإعلام الفرنسية، أن "مقتل موريس أودان كان فعلا منفردا قام به البعض، إلا أن ذلك وقع في إطار نظام قانوني وشرعي".
ووصفت جمعية "موريس أودان" قرار الرئيس الفرنسي "بالسابقة في التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا".
واعتبرت فايزة مصطفى، الناشطة في الجمعية، في تصريحات أدلت بها لوسائل إعلام جزائرية "أن القرار سيحسم مسألة تجريم الاستعمار والقضية الشائكة وهي التعذيب الذي ولد خلال الثورة التحريرية".
ورأت أن "القرار سيكون بمثابة الخطوة لإصلاح أعطاب الذاكرة، والتقريب أكثر بين الشعبين الجزائري والفرنسي".
قرار متأخر
ملف الذاكرة كان بمثابة الكابوس الذي ظل ملتصقا بالعلاقات الجزائرية الفرنسية طوال أكثر من نصف قرن بحسب المراقبين، وكان سببا في توترات بين العاصمتين منذ نيل الجزائر استقلالها عام 1962، خاصة ما تعلق منه بالأرشيف المنهوب من قبل الاستعمار الفرنسي، والذي أصر كل رؤساء فرنسا على اعتباره ملكا للدولة الفرنسية، ورفضوا التفاوض بشأنه مع السلطات الجزائرية.
في وقت تصر الجزائر على ربط مستقبل العلاقات مع فرنسا بتسوية ملف الذاكرة بدءا بالأرشيف والجماجم، والاعتراف بجرائم فرنسا الوحشية في الجزائر، والتجارب النووية بمنطقة "رقان" جنوب الجزائر.
ورغم الترحيب الرسمي الجزائري، فإن الموقف لم يكن نفسه عند عبد العزيز بلخادم، الأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني، الحاكم من 2005 إلى 2014، وهو الحزب الذي قاد ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي بجناحين سياسي وعسكري.
- ماكرون يختتم زيارته إلى الجزائر بالاتفاق على تسليم الجماجم
- بالصور.. المتحف الوطني للمجاهد راوي وقائع الثورة التحريرية الجزائرية
وفي تصريح صحفي لـ "العين الإخبارية"، اعتبر رئيس الوزراء الجزائري الأسبق (من 2006 إلى 2008)، عبد العزيز بلخادم، بأن قرار الرئيس الفرنسي "يعتبر متأخرا جدا".
وأضاف "في كل الأحوال من حق الجزائر أن تطلع على الأرشيف، مهما كانت دوافع ونوايا الطرف الفرنسي".
وفيما يتعلق بإمكانية أن تكون الخطوة الفرنسية تمهيدا لاعتراف فرنسا واعتذارها عن كل جرائمها في الجزائر التي أدت إلى استشهاد أكثر من مليون ونصف المليون شهيد في سبع سنوات ونصف، قال عبد العزيز بلخادم لـ"العين الإخبارية" "إنه مهما طال الزمان أم قصر؛ سيعترف الفرنسيون بأن الاستعمار جريمة وبأنهم ارتكبوا الفظائع ضد الجزائريين، ومنه سيعتذرون للجزائريين".
وإن كان قرار الرئيس الفرنسي خطوة مهمة كما علقت وزارة المجاهدين الجزائرية، قال الأمين العام الأسبق لحزب الأفالان "إن الخطوة ليست مهمة، بل هي متأخرة كثيرا، لأن هذا الأرشيف ليس ملكا في الأصل لفرنسا، بل ملكا للجزائر".
واستبعد في المقابل عبد العزيز بلخادم أن "يكون تراجع فرنسا اقتصاديا في الجزائر لصالح قوى أخرى لها علاقة بهذا القرار"، وقال "إن الجزائر تبحث عن مصلحتها، وأينما وجدت مصلحتها تعقد صفقات، وفرنسا ليست الشريك الوحيد، هناك الصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية وحتى الأفريقية".
وبحسب رئيس الوزراء الجزائري الأسبق، فإن هناك تفسيرا واحدا للخطوة الفرنسية بشأن فتح الأرشيف، حيث قال "إن الخطوة فرضها المنطق والتاريخ، لأن هذا الأرشيف الذي تحتفظ به فرنسا كان لإخفاء كل ما ارتكبته من فظائع في قتل وطمس هوية الجزائريين".
مناورة سياسية لأهداف اقتصادية
المحلل السياسي وأستاذ الفلسفة السياسية بجامعة الجزائر، الدكتور عبد الرحمن بن شريط، له رأي آخر في قرار الرئيس الفرنسي، وقال في اتصال مع "العين الإخبارية" إن "القرار هو محاولة لتجميل صورة فرنسا أمام الجزائريين والعالم؛ وبالتالي أعتقد بأن فرنسا لن تخسر شيئا عندما تفتح هذه الملفات، بل ستكون الرابح الوحيد؛ لأنها لن تؤثر على الراهن السياسي في فرنسا، وستستغل المسألة لإعطاء صورة للعالم بأن فرنسا مستعدة لإحداث قطيعة تامة مع تاريخها الاستعماري؛ لذلك أعتقد أن باريس ستعمل على تحريك هذا الملف".
وأضاف "في كل الحالات فإنها تتحكم في مصدر المعلومة، لأنها تملك الأرشيف، وستوظفها بالشكل الذي يناسب مصالحها، هناك عملية استغلال للموروث التاريخي الفرنسي في الجزائر لتحقيق مكاسب هامة تجاه الجزائر، في الوقت الذي أصبحت فيه الجزائر تنتهج سياسة تنويع علاقاتها الاقتصادية خاصة مع الصين، وفرنسا أصبحت تنظر إلى كل صفقة تمنح للصين على أنها أخذت منها".
وعن احتمال أن يكون قرار الرئيس الفرنسي خطوة أولى نحو تقديم الاعتذار للجزائر، قال المحلل السياسي إن "مسألة الاعتذار لا يمكن أن يتحملها ماكرون وحده، وأي رئيس فرنسي مهما كان لا يملك مقاليد السلطة والقرار بشكل كلي ومطلق، وأعتقد أن هذا الاعتراف متعلق أيضا بتحولات ثقافية وتاريخية؛ لأن الفاعلين الذين تتم إدانتهم لازالوا على قيد الحياة في فرنسا".
ويرى عدد من المراقبين أن موقف الجزائر تراجع مؤخرا فيما يتعلق بمسألة مطلب تقديم الاعتذار، وعبر عنه مؤخرا الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، عندما قال "إن الجزائر ليست بحاجة إلى اعتذار فرنسي، وبأن فرنسا اعتذرت للجزائر عام 1962 عندما خرجت من الجزائر".
ومن هنا؛ يرى الدكتور عبد الرحمن بن شريط أن "هناك تصريحات ارتجالية في الجزائر لا تلزم إلا أصحابها، ولاحظنا أن هناك انقساما بين المسؤولين في هذا الملف، ولا يوجد إجماع حوله أو رأس تتخذ القرار نتيجة حالة التخبط والصراعات الداخلية، ولا بد من إجماع في ظل الظروف التي تمر بها الجزائر، وفرنسا هي التي تتحكم في زمام الأمور ومن موقع قوة".
ورأى المحلل السياسي بأن قرار الرئيس الفرنسي "مجرد مناورة سياسية"، وقال إن "فرنسا تناور بكل حرية، وتعطي كل ما تريد إعطاءه فقط، وبالتالي فإن هذا القرار مناورة سياسية، والمعروف عن السياسة الفرنسية أنها سياسة ابتزاز ومناورة، وكل الأرشيف الجزائري موجود لديها، ويمكنها توظيفه للرفع من أشخاص وإسقاط رؤوس أخرى".
موريس أودان.. صديق الثورة الجزائرية الذي دفع الثمن غاليا
ويعد موريس أودان، رمزا للجزائريين والفرنسيين الأحرار، فقد كان واحدا من الفرنسيين الشرفاء الذين رفضوا الاستعمار الفرنسي للجزائر، وكافح مع الجزائريين لنيل استقلالهم، وهي المواقف التي أزعجت الاستعمار الفرنسي، ولم تجد إلا اختطافه وتعذيبه وقتله لإسكاته، خاصة وأنه ساهم في تأليب الرأي العام الفرنسي ضد الحكومة الفرنسية، وفضح همجية بلاده في الجزائر.
- حكاية جزائرية.. العربي بن مهيدي "قاهر جنرالات فرنسا"
- حكايات جزائرية.. العربي التْبَسّي "الشهيد الذي لا قبر له"
وبعد استقلال الجزائر، أطلقت الحكومة الجزائرية اسم "موريس أودان" على أحد أكبر وأهم شوارع العاصمة الجزائرية، وهو الشارع الذي يتوقف عنده رؤساء فرنسا عند زيارتهم إلى الجزائر، إضافة إلى شارع "العربي بن مهيدي" أحد أبطال وشهداء ثورة الجزائر التحريرية.
ولد موريس أودان في 14 فبراير/شباط عام 1932، بمدينة باجة التونسية، انخرط في الحزب الشيوعي الجزائري قبل اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954، كما كان مدرسا لمادة الرياضيات في جامعة الجزائر.
في 11 يونيو 1957، أوقف مظليون في جيش الاستعمار الفرنسي موريس أودان أمام منزله بالجزائر العاصمة، ثم اقتادوه إلى مبنى مهجور، وبعد عشرة أيام تلقت عائلته اتصالا من الجيش الفرنسي، زعم فيه "أن زوجها فر من قبضته أثناء تحويله إلى مكان آخر".
غير كثير من الشهادات والدراسات التاريخية فضحت رواية المستعمر الفرنسي، وأكدت بأنه تعرض للتعذيب والقتل، وهو ما أكده أيضا الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، عام 2014، عندما صرح بأن "موريس أودان لم يهرب من الجيش الفرنسي، بل توفي أثناء عملية الاحتجاز".