الجزائر وفرنسا.. ثنائيات متناقضة على مدار 60 عاما
مد وجزر، تقارب وتباعد، تأجيج واحتواء، ثنائيات متناقضة لطالما طبعت العلاقات الجزائرية – الفرنسية منذ نحو 60 عاماً.
تركيبة علاقات حساسة يقول المختصون فيها أو الباحثون عن فهم طلاسمها، إنها قد تشكل الاستثناء في العلاقات الدولية لما يطبعها من تعقيدات وتناقضات تؤكدها التطورات التي شهدها محور الجزائر – باريس خصوصاً في العامين الأخيرين.
- أرشيف الاستعمار.. متاهة فرنسية تحيي أمل مفقودي الجزائر
- بعد "فيتو الاعتذار".. ما مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية؟
هذه العلاقات وصلت مرات عديدة إلى حد "القطيعة" نتيجة تصريحات أو مواقف توصف من الجانبين بـ"العدائية" قبل أن يتم إطفاء لهيبها بـ"رسائل تقارب"، لكن هذه الرسائل لم تفلح في إعادة الدفء الكامل لعلاقات تتجاذب بين جراح الماضي ومصالح الحاضر والمستقبل، وفق مراقبين.
كل ذلك، شكّل بحسب المتابعين مشهدا ضبابياً في العلاقات المثقلة بالتعقيدات التاريخية والسياسية والاقتصادية وحتى الإقليمية.
وشهدت العلاقات الجزائرية – الفرنسية في الأسابيع الأخيرة تطورات متناقضة أخرجت أوراقاً جديدة وأبقت على القديمة منها، منها قرارات فرنسية كـ"عربون ثقة" تخص استعادة الأموال المنهوبة، في مقابل خطوات "إغلاق محكم" لأرشيف نووي، لخصت ذلك المشهد الضبابي والمتناقض وأسير حاضنتي الماضي والحاضر، تستعرضها "العين الإخبارية" في هذا التقرير.
الأموال المنهوبة
ومطلع الشهر الحالي، صدق مجلسا النواب والشيوخ الفرنسييْن على قانون يسمح بـ"إعادة الأموال المنهوبة والأملاك والبضائع غير المشروعة" التي صادرها القصاء الفرنسي من "المسؤولين الفاسدين" إلى الدول الأجنبية المعنية.
وبحسب الإعلام الفرنسي، فإن القانون يعطي الصلاحية للدولة الفرنسية بـ"سحب أصول الأموال من الحسابات المصرفية، وبيع العقارات الفاخرة والسيارات وغيرها من المنقولات" التي جرى شرائها بأموال منهوبة من الدول.
وهو القانون الذي اتفق الإعلام المحلي في الجزائر على أنه "ورقة تقارب فرنسية جديدة مع الجزائر"، والذي تزامن مع صدور الأحكام النهائية ضد رموز نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وإقرار مصادرة جميع أملاكهم داخل وخارج البلاد.
كما أن الرئيس الجزائري وضع ضمن أولويات برنامجه الانتخابي "استعادة الأموال المنهوبة" وتحدث في أوقات سابقة عن اقتراب "ساعة استعادتها" باتفاق مع عدد من الدول الأوروبية.
خطوة باريس أعادت إلى أذهان الجزائريين ذلك الكتاب الصادر عام 2014 بعنوان "باريس – الجزائر.. علاقة حميمية" للصحفييْن الفرنسييْن كريستوف دوبوا وماري كريستين تابت، وأثار جدلا واسعاً حينها بالجزائر.
الكتاب خصص فصلا كاملا عن "أملاك المسؤولين الجزائريين الفاخرة" في فرنسا، من بينهم وزير الصناعة الأسبق عبد السلام بوشوارب الهارب إلى وجهة مجهولة والذي صدر في حقه أحكام بالسجن 20 سنة نافذا في عدة قضايا فساد، ويوصف بـ"العقل المدبر للفساد بالجزائر" بعد سقوط نظام بوتفليقة.
وكشف الكتاب عن حجم ممتلكات عدة مسؤولين سابقين من نظام بوتفليقة، بينها عقارات وشقق وأرصدة بنكية تفوق قيمتها 2 مليون يورو لـ"شخصيتين فقط"، وهما الوزير الأسبق عبد السلام بوشوارب ومحافظ العاصمة الأسبق شريف رحماني.
التفجيرات النووية
في مقابل ذلك، يبقى ملف الذاكرة التاريخية الأكثر تعقيدا في علاقات الجزائر وباريس، وكشفت الجزائر مؤخرا عن "رفض فرنسي لتسليمها خرائط التفجيرات والتجارب النووية التي أجرتها في صحرائها" في خمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي، وهو الملف الذي تصر الجزائر على استعادته وتسويته بالكامل.
وفي تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أوضح الطيب زيتوني وزير المجاهدين الجزائري السابق (قدماء المحاربين) بأن "الطرف الفرنسي يرفض تسليم الخرائط الطبوغرافية التي قد تسمح بتحديد مناطق دفن النفايات الملوثة، المشعة أو الكيماوية غير المكتشفة لغاية اليوم".
وتابع انتقاده لباريس بالقول: "لم تقم باريس بأي مبادرة لتطهير المواقع الملوثة من الناحية التقنية أو بأدنى عمل إنساني لتعويض المتضررين".
المهاجرون السريون
ملف آخر يؤزم العلاقات بين الجزائر وفرنسا، وهو ملف الهجرة غير الشرعية، إذ أعربت الجزائر، الأسبوع الماضي، عن رفضها "العودة الطوعية" لنحو 250 مهاجرا جزائرياً يعيشون في فرنسا بشكل غير قانوني.
وهو قرار فرنسي يضمن تعهد المهاجرين بالعودة إلى بلدانهم والتزامهم بعدم العودة إلى باريس، مقابل ضمان السلطات الفرنسية تكاليف عودتهم ومنحهم أيضا مبلغاً رمزياً يصل إلى 650 يورو للشخص الواحد.
إلا أن رغبة باريس في التخلص من عبء المهاجرين غير القانونيين قوبل بـ"رفض جزائري"، إذ كشفت وسائل الإعلام في البلدين عن أن السلطات الجزائرية "تحفظت" على كثير من أسماء المرحلين لأسباب "صحية" تتعلق بجائحة كورونا، وأخرى عن تقارير أمنية تشير إلى "تورط بعض منهم في قضايا عمالة لجهات أجنبية".
وفي تصريحات للإعلام الفرنسي، اعتبر ديدييه ليتشي مدير المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج بأن "الجزائر هي البلد الوحيد الذي لدينا معه مشكلة عودة مواطنيها المتواجدين بطرق غير قانونية على الأراضي الفرنسية"، ووصف ذلك بـ"الخطوة العدوانية".
"لوبيات التوتر"
وفي الوقت الذي يبحث فيه المختصون في العلوم السياسية والعلاقات الدولية عن فهم التركيبة المعقدة للعلاقات الجزائرية – الفرنسية، أماط الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون اللثام عن "سر العلاقة" مع باريس أو "الجهات المتحكمة بها".
وفي تصريحات إعلامية، الشهر الماضي، اتهم تبون 3 لوبيات فرنسية بما أسماه "زرع الحقد تجاه الجزائر".
وأشار إلى ذلك بالقول: "في فرنسا توجد ثلاثة لوبيات ولا أحد منهم يتوافق مع الأخر"، ولفت إلى أن اللوبي الأول "من المعمرين الذين غادروا الجزائر بعد الاستقلال ويغدّون حقدهم لأحفادهم" والذين يصطلح على تسميتهم بـ"الأقدام السوداء".
أما الثاني الذي ذكره الرئيس الجزائري هو "امتداد لما يسمى بالجيش السري الفرنسي" واللوبي الثالث "متكون من جزائريين اختاروا الوقوف مع فرنسا".
"الثالوث المتأرجح"
إلا أن الأكاديمي الجزائري الدكتور مهماه بوزيان قدم قراءة أخرى عن واقع العلاقات الجزائرية – الفرنسية، أشار من خلالها إلى "حالة التأرجح والتجاذب" الي تطبع تلك العلاقات، واستدل على ذلك بتناقضات الملفين التاريخي والاقتصادي.
وفي منشور له عبر موقع "فيسبوك" رصدته "العين الإخبارية" تساءل الأكاديمي الجزائري بالقول: "هل فعلا يعكس التوتر السياسي الظاهر بين البلدين على خلفية التاريخ، مستوى متدنيّا للتواجد الفرنسي بالجزائر؟ أم أن الاقتصاد تحكمه الاعتبارات البراغماتية بالأساس؟".
وفي المنشور ذاته، أجاب بوزيان على تلك التساؤلات بـ3 نقاط "من الجانب الجزائري"، رأى بأنها تلخص حقيقة وأسباب ذلك التجاذب الذي يطبع محور الجزائر – باريس.
أول التجاذبات التي ركز عليها الأكاديمي الجزائري "هي "الإرادة الوطنية الكامنة في العقيدة الوطنية المترسخة والتي ترى في الوفاء لملف الذاكرة الذي يفيض بأهوال الهمجية الفرنسية التي مورست مباشرة على الشعب الجزائري طيلة 132 سنة واجباً قائماً لا يُمحى بتعاقب الأيام و لا يقبل التقادم والانمحاء".
والثاني هو "مسعى السلطة الجزائرية القائمة لإحداث نوع من التوازن في العلاقة، يتسم بالندية في التعامل وتقاسم المصالح".
والثالث – بحسب الأكاديمي - هي "ضغوطات بعض الدوائر التي هي فريسة نزواتها، حيث ترى أن تحقيق مصالحها يمر عبر خدمة المصالح الفرنسية، لذلك تدعم النفوذ الفرنسي الاقتصادي واللغوي والثقافي في الجزائر، باعتباره حامياً لوجودها واستمرار نفوذها".