ما حدث أخيراً في الجزائر والسودان يدعو إلى مراجعة شاملة لمفهوم ما سمي بـ"الربيع العربي" خصوصاً لجهة السياق والارتباط أو الترابط.
يدعو ما حدث أخيراً في الجزائر والسودان إلى مراجعة شاملة لمفهوم ما سمي ثورات «الربيع العربي» خصوصاً لجهة السياق والارتباط أو الترابط، وإذا كان التغيير في تونس ومصر وليبيا قد حدث في أفق زمني واحد، وربما في ظروف موضوعية وسياسية متصلة، فكيف تقرأ مجريات ومخرجات الأحداث في كل من الجزائر والسودان بعد 8 سنوات؟ الظروف غير الظروف، وزمن تجربة التغيير في بعض أقطار الوطن العربي ليس هو بالذات، ومن يرد أن يحسب هذا على ذاك، فهو ينزع نحو تبسيط مخل حتى لا يقال إنه يتبنى رأياً لا يخلو من بعض السذاجة.
معكم يا عقلاء الجزائر والسودان، لكن الحاجة إلى المراجعة ملحة وماسة، الجزائر والسودان للمستقبل، والماضي تجربة ووعي، والحاضر جسر مضاء بذاكرة الحقيقة.
في السنين الثماني الأخيرة تغيرت أحوال المنطقة والعالم جذرياً من وجوه عدة، ووعت دول ما يعرف بـ«الربيع العربي» ومعها الدول المحيطة، المتفرجة إن شئت، والمتأثرة ولو بمعنى من المعاني، تجربة تغيير مطبوعة بالطابع الدموي المبالغ فيه، بالرغم من أن البدايات دائماً «سلمية» وسرعان ما تبدأ العسكرة من طرف أو أطراف متعددة، وفي بعض الأحيان داخلية وخارجية كما حدث، على نحو صارخ، في سوريا، فهل ينتسب ما حدث ويحدث اليوم في الجزائر والسودان إلى ثورات «الربيع العربي»؟ السمة المشتركة، وجزء من التجربة قد يتناقل قطعاً، تجاوز حاجز الخوف، لكن ما يليه من تفاصيل إنما يوضح الاختلاف أكثر من الاتفاق، لذلك يجب الابتعاد عن السيناريوهات المرسومة والمتوقعة، نظراً لأن هذه غير تلك، وبسبب تغير الأسباب والملابسات والظروف، بل يمكن اعتبار تغيير الجزائر والسودان تجلياً لوعي جديد ترتب على وعي تجربة أو تجارب العام 2011 بكل حصادها المر وآثارها، وتغييرها «المحدود»، بل الذي لا يكاد يحس أو يلمس أحياناً مقابل أثمانه الباهظة، ولا يستغرب اليوم أحدنا أو «يندهش» عندما يزور بلداً عربياً من بلاد «الربيع» فيجد إجماعاً أو شبه إجماع لدى كل من سألهم: «طبعاً أول أفضل».. أفضل حتى في الوظيفة ولقمة العيش.
ربما عد الجزائريون والسودانيون للعشرة قبل الأحداث الأخيرة، وربما لم يجدوا بداً من الحراك السلمي والخروج إلى الشارع نتيجة شعور متعاظم بأن السلطات في بلادهم تخالف القواعد الانتخابية بالتمديد المستمر لرجل ذي ماض سياسي مشرف لكنه الآن مريض وعاجز وربما حكم فعلياً غيره (حالة الجزائر)، والحالة مشابهة لكن غير مماثلة في السودان، الرجل الذي قال زملاؤه الخلص إنهم «اقتلعوه» و«اقتلعوا» نظامه أوصل السودان، الغني بموارده البشرية والطبيعية افتراضاً، إلى حالة قاهرة من الفقر والبؤس واليأس وقلة الحول والحيلة حتى أصبح لسان السوداني «فما حيلة المضطر إلا ركوبها».. ركوب موجة ثورة مستحقة بعد معاناة استمرت عقوداً، ثلاثة عقود والبشير يحكم وفق المصادفات وكيفما اتفق، معتمداً على التكتيكات الصغيرة بنهاياتها الحتمية وعلى اللعب على كل الحبال، وكأنه لا يحكم وطناً عزيزاً وعريقاً كالسودان بقدر ما يلهث وهو يركض ويبدل القبعات الملونة.
قال السودانيون موقفهم في حراك عد الأجمل، حيث السلمية شعار حقيقي وفعل حقيقي، وحيث السودانيون طيبون مع بعضهم بعضاً، وحتى، بمعنى من المعاني، مع رئيس ظلمهم ثلاثين عاماً وظل متمسكاً بوهم كرسيه حتى اليوم الأخير واللحظة الأخيرة.
التمسك بكرسي الوهم حتى آخر لحظة أو آخر رمق، ذلك مشترك أكيد بين بوتفليقة والبشير، لكن هل كان الرجلان يمثلان نفسهما، أم نظامين وتيارين وفريقي عمل؟
المتظاهرون، كل جمعة، في ميدان «البريد» في الجزائر العاصمة ما زالوا يرسلون «رسائلهم» مطالبين برحيل جميع رموز النظام السابق، فيما يطبق الرئيس المؤقت جزئية دستورية يصر المتظاهرون على تطبيقها روحاً لا نصاً، والأصل اتفاق الجميع على إجراء انتخابات حرة نزيهة بمراقبة محلية وخارجية في زمن قريب، بدا من مجريات الحراك ومن كلمة الرئيس المؤقت أن «الأجواء» ليست مهيأة لها حتى الآن، ليست مهيأة بعد كل ما حدث؟ على الجزائريين تغليب خيار الحوار وفي الوعي الراسخ فظائع ما سمي «الربيع العربي».
وعلى السودانيين تغليب الأمر ذاته، فالحوار هو كلمة السر أو الكلمة السحرية التي ينبغي أن تقال اليوم وكأنها وصفة طبية لمعالجة أمراض مزمنة ما كان لها أن تتراكم في حضور الحوار والحرية والمسؤولية أصلاً، لا مجال للقفز على المعطيات الموضوعية، والمسألة تتعلق بالحاضر والمستقبل والأمن والتنمية، ولذلك فلا تغيير بكبسة زر، ولا بد من العمل معاً على تخطي اللحظة الراهنة التي تبدو محاطة بكثير من الجدران السود في كل من الجزائر والسودان.
من المفارقات أن رجلاً «مهزوزاً» مثل منصف المرزوقي، ينظّر في قناة الجزيرة الإرهابية حول الجزائر والسودان، معيداً الأسطوانة المشروخة ذاتها حول «وأد» الثورات العربية ودور الإمارات، ما حدث في الجزائر والسودان هو الرد المنطقي على مروّجي نظرية المؤامرة هذه، وعندما تصحح الشعوب العربية مساراتها، من المعيب اتهامها بالجهل أو التبعية لأن التصحيح لم يعجب الإخوان المسلمين أو غيرهم من عبيد الأفكار المتعصبة والضيقة.
يؤمل نجاح الوساطة الإثيوبية، ويؤمل من قوى الحرية والتغيير والمجلس الانتقالي في السودان إخضاع المسألة لتنازلات من الطرفين، نحو تحقيق انتخابات حرة في زمن معقول يُتفق عليه، ويؤمن في كل من الجزائر والسودان تجاوز اللحظة الراهنة، بكل ما اشتملت عليه، بما في ذلك فض الاعتصام، وهو غير مقبول طبعاً، لكن يجب ألا يكون عقبة أمام المستقبل، خصوصاً بعد الاعتذار والوعد بالتحقيق، رحم الله النفوس المحترمة ولا بد من معاقبة الجناة، لكننا بصدد مستقبل السودان.
كلمة أخيرة: هل هناك عاقل اليوم، وبعد كل ما حدث في الوطن العربي منذ مطلع 2011، يصدق تحريض قناة الجزيرة وأبواق المعزولة قطر؟
معكم يا عقلاء الجزائر والسودان، لكن الحاجة إلى المراجعة ملحة وماسة، الجزائر والسودان للمستقبل، والماضي تجربة ووعي، والحاضر جسر مضاء بذاكرة الحقيقة.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة